ومن المعلوم أن الصبي لا يتكلم إلا باللغة التي يسمعها، فلولا أن رجلا من العرب ولدت له تركيه ولداً،، فغاب الوالد عنه ونشأ مع أمه لم ينطق بالعربة التي لم يسمعها وإنما ينطق بالتركية التي سمعها من امه، ولا يسمع غيرها. فبان بهذا أن أصل الكلام سمع وأن أول من يتكلم من البشر تكلم عن تعليم ووحي، كما قال الله عز وجل: {وعلم آدم الأسماء كلها {فاسمعه الأسماء وألهمه علم ما أسمعه، وأقدره على النطق به، فصار متكلما.
ثم أنه لما سمع الكلام منه غير معروف نفس الكلام، وبتلقيه بما ركب الله تعالى في لسانه من التيسير له على المراد باستدلال عقلي رجع أصله إلى العرف والعادة، وهو أن يقف السامع من المتكلم بالعبارة، وأن بنقص الأمارات الحالية على أنه إذا تكلم بكذا أو أراد بكذا وأراد كذا، تدله حال المتكلم على إفادته، كما قد تدل الإشارة التي هي دون العبارة على كثير من الإفادة، فأما أصل الكلام سمع مولا يمكن فيه غير ذلك والله أعلم.
وفي ظهور ما وصفت أن الدلائل الدالة على الرسل دالة على القديم جل ثناؤه لا يمكن أن يكون الذي أرسلهم واحداً مثلهم، فيصح أنه إنما أرسلهم من لا يشبههم، ولا يجوز عليه الجهل والعجز ما يجوز على الناس، وليس إلا المباري القدم جل ثناؤه وتباركت أسماؤه.
فصل
ثم أن رسولاً أرسله الله إلى قوم فلم يجله من إبداء آية وحجة أتاها إياه وجعل تلك الآية مخالفة العادات إذ كان ما يريد الرسول إثباته بها من رسالة الله تعالى أمراً خارجاً من العادات، فيستدل بإقران تلك الآية بدعواه، وأنه رسول الله واستظهاره بها على تصحيح دعواه على صدقه واخفائه، فإنه إذا كان لا يتميز عن سائر الناس بأمر يوجب أن ينقص الله تعالى لأجله عادة سوى دعواه أنه رسوله، ولا يعلم لينقص الله تعالى العادة على لسانه أنه أوغل يده، وفي الجملة لأجله ولسببه وجه سوى أن يكون خصه بذل لتخصيصه إياه مما يدعيه من رسالته بغير هذا الوجه للقبول، لم يكن لتوهم غيره مساغ وإن قال لقومه: