الأبيات لأراحنا من الشغل بمعنى غير عجيب ولفظ غير مصيب.

ويتلوها قصيدة أولها:

أفاضِلُ النَّاس أغراضٌ لذا الزمنِ ... يخلو من الهمِّ أخلاهم من الفطن

هذا من قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

أتنكر مني الهمّ والهم ما له ... من الأرضِ مأوى غير قلبِ المُميز

وقال آخر:

من كان ذا غفلةٍ وجهلٍ ... كان خليّاً من الهمومِ

وقد أختصر أبو الطيب اللفظ الطويل في الموجز القليل وقال البحتري:

عقلتُ فودعتُ التَّصابي وإِنّما ... تصرّمُ لهو المرءِ أنْ يكمل العقْلُ

أرى العقل بُؤْسي في المعيشة للفتى ... ولا عيشَ إلا ما حباك به الجَهْلُ

وقال المتنبي:

وإنما نحن في جبلٍ سواسيةٍ ... شرّ على الحرّ من سُقمٍ على بدن

ينظر إلى قول بشار:

وصاحب كالدُّمل المُمدّ ... حملتُه في رقعةٍ من جِلْدي

وقال المتنبي:

حولي بكل مكانٍ منهم خلقٌ ... تُخطِي إذا جئت في استفهامها بمن

معناه: أن من يعقل يستفهم عنه بمن وما لا يعقل يستفهم عنه بما فجعل هؤلاء مما لا يعقل وجرى على رسمه في ترك الهمز في) تخطي (ومعناه موجود في قول أبي تمام:

لا يدهمنّك من دهمائهم عدد ... فإِن جلّهم بل كلّهم بقر

وهذا كلام واضح ومقصد راجح وأبو تمام أولى به.

وقال المتنبي:

فقرُ الجهول بلا عقلٍ إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا رأسٍ إلى رَسَنِ

) فقر الحمار بلا رأس إلى رسن (فقد الفرس والبغل من عدمهما رأسيهما لا فقدهما إلى رسن فكيف خصص الحمار إلا أن يكون قصر أن الجهول يشبه الحمار ورفع الفرس والبغل عن منزلة الحمار والمفهوم قول صالح:

وقد ينفعُ التأديب من كان عاقلاً ... فإِن لم يكن عقل فلن ينفعُ الأدبُ

وقال المتنبي:

خُرّابِ باديةٍ، غرثى بُطونهُمُ ... مكن الضّباب لهم زادٌ بلا ثَمنِ

مكن الضباب: بيضها قال أبو الهندي:

ومكن الضِّباب طعامُ العريبِ ... ولا تشتهيه نُفوس العَجمِ

والخراب جمع خارب وهو اللص والخارب وغيره يشتركان في الطعام من العرب.

وقال المتنبي:

كم مخلصٍ وعلاً في خوض مهلكةٍ ... وقتلةٍ قُرنت بالذمّ في الجُبُنِ

هذا يساوي بيتاً تمثل به معاوية وهو:

فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطلُ

وقال المتنبي:

ألقى الكرامُ الأُلى بادوا مكارِمَهُمْ ... على الخصيبيِّ عند الفرض والسُّننِ

لو قال: بادوا محاسنهم على الخصيبي أو ألقى الزهاد والفقهاء تورعهم صح المعنى فأما المكارم فكان يجب أن يقول بعدها الجود والمنن لتحسن مبانيه وتتناسب معانيه.

وقال المتنبي:

القائلُ الصدقَ فيه ما يضرُّ به ... والواحدُ الحالتين: السِّرّ والعَلنِ

يشبه قول القائل:

فسرّي كإعلاني وتلك خليقتي ... وظلمةُ ليلي مثل ضوء نهاريا

وقال المتنبي:

أفعالُهُ نسبّ لو لم يقل معها ... جدي الخصيبُ عرفنا العرق بالغُصنِ

أما قوله: أفعاله نسب فمن قول البحتري:

ولست أعتد للفتى نسباً ... ما لم يكن في فعاله نَسبه

وعجزه من قول ابن الرومي:

كدأب علي في المواطن جده ... أبي حسن، والغصن من حيث يخرج

وقال غيره: والابن ينشأ على ما كان والده ... إنّ الأصول عليها ينبتُ الشجرُ

ولكنه جمع الطويل في الموجز القليل.

وقال المتنبي:

العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن

ولولا انتهاء القافية لمضى في العرض الهتن إلى آدم عليه السلام وبانتهاء البيت أعلمنا أن نهاية عدد آبائه المستحقين للمدح ثلاثة ثم يقف هذا الأمر، وأحسن من هذا قول البحتري:

الفاعلون إذا لذنا بجودهم ... ما يفعلُ الغيث في شؤبويه الهتِنِ

فجاء بالمعنى عاماً بغير عدد مردود ولا لفظ مستبرد فهو أرجح كلاماً وأحسن نظاماً وهو أحق بما قال، وما أشبه تردد بيت أبي الطيب ببيت قاله امرؤ القيس:

ألا إنني بال جمل بال ... يقودُ بنا بال ويتبعُنا بال

فإن جعله قدوة في التردد فقد اقتدى برئيس الشعراء وقد قال الشافعي في أهل مصر: ما رأيت قوماً اتخذوا جهل رجل علماً غير أهل مصر فإنهم سألوا مالكاً عن مسائل قال لهم ما أعلمها فهم لا يقبلونها ممن علمها لأن مالكاً قال: لا أعلمها. وقال المتنبي:

الخاطرين على أعدائهم أبداً ... من المحامد في أوقى من الجننِ

هذا من قول ابن الرومي:

متلافُ أموالٍ، ضاعةُ كفِّه ... تفريقُ كل مُؤَثَلٍ مجموع

ما زال يبذلها ويعلم أنّها ... لمقاتل الأعراض خير دُروع

ومن قوله أيضاً:

ذاك الذي لا يقي مالاً بصفحته ... بل يجعل المال دون الدم كالجِنن

وهو من قسم المساواة.

وقال المتنبي:

لم نعتقد بك من مُزنٍ سوى لثقٍ ... ولا من البحر غير الريح والسُفُنِ

ولا من اللَّيث إِلا قبح منظرهِ ... ومن سواة سوى ما ليس بالحسنِ

اللثق: من مفاتح المزن وليس السفن من مفاتح البحر وكان ينبغي أن يقول:) ولا من البحر غير الجور والغرق (فيأتي بمفاتح البحر كما أتى بمفاتح المزن والليث ليعتدل الكلام وتستقيم الأقسام كما عدلها ابن الجهم بقوله:

إذا نحن شبهناك بالبدرِ طالعاً ... بخسناك حظاً أنت أبهى وأجملُ

ونظلمُ إنْ قسنا بك الليث مرة ... لأنك أحمى للذّمار وأبسلُ

ولست ببحرٍ أنت أعذبُ مورداً ... وأنفع للراجي نداك وأشملُ

أقسامه راجحة ومعانيه واضحة فهو أحق بقوله ومما يسأل عنه قوله:) ومن سواه سوى ما ليس بالحسن (ما معناه والذي وهب له أنا لم نفتقد بك من المزن والبحر والليث إلا ما يعاب به ومن سواه يريد لم يفتقد مما سواه شيئاً حسناً من جميع الأشياء سوى ما ليس بالحسن فإنه لا يشبهك كأنه يقول قد شبّه من كل شيء سوى ما كان غير حسن.

وقال المتنبي:

أخلتْ مواهبك الأسواق من صنع ... أغنى نِداك عن الأعمال والمُهَنِ

يقرب من قول العكوك:

ومعشرٍ رفعت دُنياك أعينهم ... فوق العيون وكانوا بِذلة المُهنِ

وهو يساويه أو يقاربه.

وقال المتنبي:

ذا جودُ من ليس من دهر على ثقةٍ ... وزُهد من ليس في دنياه في وطنِ

صدره من قول أبي نؤاس:

فتى يشتري حسن الثناء بمالِهِ ... ويعلم أنَّ الدائراتِ تَدُور

وباقيه ينظر إلى قول أبي نؤاس أيضاً:

إِمامٌ يخافُ الله حتى كأنّما ... يؤملُ رؤياهُ صباحَ مساء

لكنه قد جاء باللفظ الطويل في الموجز القليل.

ويليها قصيدة أولها:

ألا لا أرى الأحداث حمداً ولا ذمّاً ... فما بطشها جميلاً ولا كفّها حِلْما

يقرب من قول ابن المعتز:

الدهرُ فيه مساءةٌ ومسرّةٌ ... فجزاء دهرك أن يدوم ويحْمِدا

وقال المتنبي:

إلى مثل ما كان الفتى مرجعُ الفتى ... يعودُ كما أبدى ويكدي كما أرْمى

ينظر إلى قول ابن الرومي:

يودُ الفتى طول تَعْميره ... ولا مُتناهي إِلا قصيرُ

ما كان بدء الفتى كذ ... اك إذا كان أيضاً يصيرُ

وقال المتنبي:

منافِعُها ما ضرَّ في نفع غيرها ... تغذى وتروى أن تجُوعَ وأنْ تَظما

ينظر إلى قول ابن أبي فنن:

فيما يُنعم عيشهم ... وليستريحوا في عَنائِهِ

وقال المتنبي:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلمَّا دهتنا لم تزدني بها عِلْما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015