(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيَكْتَالُهُ ثُمَّ يَأْتِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ فَيُخْبِرُ الَّذِي يَأْتِيهِ أَنَّهُ قَدْ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَوْفَاهُ فَيُرِيدُ الْمُبْتَاعُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ بِكَيْلِهِ إنَّ مَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِنَقْدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الَّذِي إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّبَا، وَتَخَوُّفٌ أَنْ يُدَارَ ذَلِكَ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَامٍ قَابِلٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ بَقَاؤُهَا إلَى عَامٍ آخَرَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُبْتَاعِ بِتَأْخِيرِ مَالِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي كِرَاءِ السُّفُنِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ، وَقَوْلُ مَالِكٍ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَكَانَ كَالْعَيْبِ يَجِدُهُ بِالْمَبِيعِ فَلَهُ رَدُّهُ، وَلَهُ إبْقَاؤُهُ، وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ جَارِيَةً مِنْ أَعْلَى الرَّقِيقِ فَتَوَاضَعَاهَا ثُمَّ أَطْلَعَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا لَكَانَ لَهُ الرِّضَا بِهَا، وَانْتِظَارُ قَبْضِهَا إذَا انْقَضَتْ مُوَاضَعَتُهَا أَوْ رَدَّهَا الْآنَ مُعَجَّلًا فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ، وَهَذَا حُكْمُ كِرَاءِ السُّفُنِ إذَا فَاتَ إبَّانُ جَرْيِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ الْفَسْخُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لَهُ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّخْيِيرِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ شَاءَ التَّأْخِيرَ فَذَلِكَ لَهُ، وَقَالَ أَصْبَغُ مَنْ شَاءَ التَّعْجِيلَ فَذَلِكَ لَهُ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ مَنْ أَرَادَ التَّأْخِيرَ بِالتَّعْجِيلِ كَمَا يَلْحَقُ مَنْ أَرَادَ التَّعْجِيلَ بِالتَّأْخِيرِ، وَقَدْ انْعَقَدَ سَلَمُهُمَا بِعَيْنٍ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَا يَنْتَقِلَانِ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي نَقْلِهِمَا عَنْهُ مَضَرَّةٌ لَاحِقَةٌ لِمَنْ كَرِهَ التَّعْجِيلَ، وَنَقَلَ عَيْنَ الْمَبِيعِ إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَوَتْ الضَّرُورَةُ كَانَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ أَوْلَى كَمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ ضَرُورَةٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ أَنَّ الْعَقْدَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعْجِيلِ فَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالتَّأْخِيرِ مُخْرِجٌ عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ فَكَانَتْ مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى مِنْ ضَرَرٍ لَا يُخْرِجُ عَنْ حُكْمِ الْعَقْدِ بَلْ يُرَدُّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَعَ ضِيقِ حَالِهِ، وَلَكِنَّهُ ضَرَرٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلَا يُغَيَّرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ.
(فَرْعٌ) وَقَوْلُ مَالِكٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَةِ رَأْسِ مَالِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا تَرَاضَيَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُؤَخِّرَ أَوْ يُعَجِّلَ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ فِي التَّخْيِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الضَّرَرَ يَخْتَصُّ بِهِ فِي تَأْخِيرِ مَا لَهُ عَلَيْهِ تَعْجِيلُهُ، وَهَذَا غَالِبُ الْحَالِ فَكَانَ الْخِيَارُ مُخْتَصًّا بِهِ كَمُكْتَرِي السَّفِينَةِ وَوَاجِدِ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ فِيهِ الْمُوَاضَعَةُ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا قُلْنَا أَنَّهُ يُفْسَخُ بَيْنَهُمَا الْبَيْعُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ إنْ تَحَاسَبَا فَجَائِزٌ أَنْ يَأْخُذَ بِبَقِيَّةِ رَأْسِ مَالِهِ مَا شَاءَ مُعَجَّلًا حَاشَا الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ يُدْخِلُهُ فِي مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ اقْتِضَاءٌ طَعَامٍ مُعَجَّلٍ فِي طَعَامٍ مُؤَجَّلٍ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى قَابِلٍ بِالثَّمَرَةِ فَتَرَكَهَا، وَأَخَذَ مَكَانَهَا طَعَامًا كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَدْ خَفَّفَهُ أَصْبَغُ فِي الطَّعَامِ عَلَى إقْرَارٍ مِنْهُ بِالْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ يَأْخُذُ فِيمَا لَا يُقْطَعُ إبَّانُهُ مِنْ الْعِنَبِ زَبِيبًا أَوْ عِنَبًا شَتْوِيًّا رَطْلًا بِرَطْلَيْنِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَّمَ فِي لَحْمِ ضَأْنٍ فَانْقَطَعَ إبَّانُهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِبَاقِي سَلَمِهِ لَحْمَ بَقَرٍ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ نَقْدًا يَقْبِضُ جَمِيعَهُ مَكَانَهُ فَأَمَّا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُ مَا شَاءَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يُرِيدُ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ لَيْسَ لَهُمَا إلَّا الْمُحَاسَبَةُ فِيمَا لَيْسَ لِحَائِطٍ بِعَيْنِهِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْكَاتِبِ إنَّمَا يَقَعُ مَا ذَكَرَهُ إذَا حُكِمَ بِالْفَسْخِ أَوْ أَشْهَدَ بِالْفَسْخِ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ لَحْمًا مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِلْخِلَافِ الَّذِي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا فِيهِ خِلَافٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حُكْمٍ أَوْ إشْهَادٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ.