(ص) : (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُؤْوِيكِ إلَيَّ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا وَلَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا وَلَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا كَيْمَا تَطُولَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِيُضَارَّهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] يَعِظُهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ) .
(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا عَنْ طَلَاقِ السَّكْرَانِ فَقَالَا: إذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ جَازَ طَلَاقُهُ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (ش) : الْآيَةُ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي تَقْدِيرِ الطَّلَاقِ وَمَا لِلرَّجُلِ مِنْهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا طَلْقَتَانِ تَعْقُبُهُمَا رَجْعَةٌ وَطَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهَا فَقَطَعَ بِذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرَرَ مَنْ كَانَ يَسْتَدِيمُ الطَّلَاقَ، وَالِارْتِجَاعَ يَمْنَعُ بِذَلِكَ الزَّوْجَةَ مِنْ أَنْ تَحِلَّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُعِيدُهَا هُوَ إلَى حَالِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا عَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَقَصْدِ الْمُوَاصَلَةِ فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا لِلزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَهَا فِي كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ أَوْقَاتٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَلَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] أَنَّ هَذَا حُكْمُ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَهَذَا لِلزَّوْجِ وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا بِإِحْسَانٍ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى الْمُوَاصَلَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالزَّوْجِيَّةِ لَا يُضَارُّهَا وَيُطَوِّلُ عَلَيْهَا بِالرَّجْعَةِ عِدَّتَهَا وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] يُرِيدُ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ أَوْ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِهَا حَاجَةٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وقَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] نَهَاهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ الِارْتِجَاعُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أُمِرُوا بِإِيقَاعِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ دُونَ الْإِضْرَارِ فَمَنْ أَوْقَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَمَا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الْأُولَى غَيْرُ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : قَوْلُهُمَا إذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ جَازَ طَلَاقُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ أَصْلُ ذَلِكَ الصَّحِيحُ وَلَا خِلَافَ فِي إلْزَامِهِ الْقَطْعَ بِالسَّرِقَةِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ اللَّيْثِيِّ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ أَيَّدَهُ اللَّهُ: وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنَّ السَّكْرَانَ الْمَذْكُورَ لَا يَذْهَبُ عَقْلُهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ مَعَ صِحَّةِ قَصْدِهِ إلَى مَا يَقْصِدُهُ وَلِذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْقَتْلِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ بَلَغَ إلَى حَدِّ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ وَلَا يَبْقَى لَهُ عَقْلٌ جُمْلَةً فَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَطْلِيقٌ إذَا بَلَغَ هَذِهِ الْحَالَةَ وَلَا يَتَهَيَّأُ مِنْهُ ضَرْبٌ وَلَا قَصْدٌ إلَى قَتْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ سُكْرَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ الَّذِي يُذْهِبُ الْعَقْلَ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْعَقْلُ تَغْيِيرًا يَجْتَرِئُ بِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهَا صَاحِيًا كَالسَّفِيهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ بَلَغَ حَدَّ الْإِغْمَاءِ لَمَا اُقْتُصَّ مِنْهُ وَلَا لَزِمَهُ طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ كَسَائِرِ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ