وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُعَاقِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِي قَالَ فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ فَجَهَّزَتْ صَفِيَّةُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَتِي حَتَّى أَدْخَلَتْهَا عَلَيَّ بِعِلْمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثُمَّ دَعَوْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمَ عُرْسِي إلَى وَلِيمَتِي فَجَاءَنِي) .
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَرَأَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً) .
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (ش) : قَوْلُهُ: فَدَخَلْت عَلَيْهِ، فَإِذَا سِيَاطٌ مَوْضُوعَةٌ وَقَيْدَانِ مِنْ حَدِيدٍ وَعَبْدَانِ يَقْتَضِي مَعَ كَمَالِ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا كَانَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْإِكْرَاهُ الَّذِي يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ، وَإِنْ قَلَّ، وَأَنَّ السِّجْنَ إكْرَاهٌ وَكَذَلِكَ أَخْذُ بَعْضِ الْمَالِ وَقَالَ فِيمَنْ مَرَّ بِعَشَّارٍ فَقَالَ فِي أَمَةٍ هِيَ لَهُ حُرَّةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي يَمِينِ الْمُكْرَهِ إنْ كَانَ لَمْ يَحْلِفْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَالِفَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَنْزِعُ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ وَأَنْ لَا يُسْرِعَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ حَدِيثُ ثَابِتِ بْنِ الْأَحْنَفِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: فَقَالَ طَلِّقْهَا وَإِلَّا وَاَلَّذِي يُحْلَفُ بِهِ فَعَلْت بِك كَذَا، وَكَذَا فَقُلْت هِيَ الطَّلَاقُ أَلْفًا يَقْتَضِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُكْرَهًا، وَقَدْ أَفْتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ طَلَاقُهُ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» ، وَالْإِغْلَاقُ الْإِكْرَاهُ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا أَوْقَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ كَطَلَاقِ الْمَجْنُونِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَسَوَاءٌ أُكْرِهَ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِهِ أَوْ الْيَمِينِ بِهِ أَوْ الْحِنْثِ فِي يَمِينٍ لَزِمَتْ بِهِ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَضَمَّنُ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِكْرَاهِ كَالْإِقْرَارِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ دَعَوْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إلَى وَلِيمَتِي فَجَاءَنِي يَقْتَضِي بَقَاءَهُ عَلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ وَلِذَلِكَ حَضَرَ وَلِيمَةَ بِنَائِهِ بِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَهَا مُكْرَهًا وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إلَى جَابِرِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُعَاقِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِمَا كَانَ مِنْ تَعَدِّيهِ عَلَى ثَابِتٍ وَظُلْمِهِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا أَلْجَأَهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْصِفَ ضَعِيفَهُمْ مِنْ قَوِيِّهِمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(ش) : قَوْلُهُ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُورِدُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَلَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْمُصْحَفُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا فَتِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي تُسْتَقْبَلُ بِهَا الْعِدَّةُ يُرِيدُ أَنْ تَبْدَأَ فِيهَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تَطْلُقَ فِي حَالَةٍ تَعْتَدُّ بِهَا وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الْحَيْضِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّلَاقِ تَنَاوَلَ حَالَ الطُّهْرِ وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ زَمَنَ الطُّهْرِ هُوَ الَّذِي يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي تُسْتَقْبَلُ الْعِدَّةُ بِهِ وَقَوْلُهُ عَنْ مَالِكٍ: إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقَدْ أُنْكِرَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقِيلَ إنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ طَلَاقَ السُّنَّةِ عِنْدَهُ أَنْ يُطَلِّقَ طَلْقَةً فِي كُلِّ طُهْرٍ أَيْ فِي أَيِّ طُهْرٍ سَأَلَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الطَّلَاقَ وَيُوقِعَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُتْبِعُهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ طَلْقَةً ثَانِيَةً وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقِ إيقَاعُ طَلَاقٍ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَلَا الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ جِهَتُهُ التَّعَلُّقُ بِالْعُمُومِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي طُهْرٍ قَدْ مَسَّ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.