قال الجهم بن المغيرة: كنا عند حيوس بن ثمال القرمطي بضرية، فمرت بنا جارية صفراء مولدة، فقال لي حيوس: استفتح كلامها فإنها ظريفة، فقلت: يا جارية أين نشأت؟ فقالت: بقرقري، قلت: فأين شعبعب؟ فضحكت، ثم قالت: بين الحوض والعطن، قلت: فمن الذي يقول:
يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ... عوجا على صدور الأبغل السنن
ثم ارفعا الصوت ننظر صبح خامسة ... بقرقري، ما عناء النفس بالوطن
هل أجعلن يدي للخد مرفقة ... على شعبعب بين الحوض والعطن؟!
فالتفتت إلى حيوس، فقالت: خبره بقائلها، فقال: ما أعرفه، فقالت: بلى هذا يقوله شاعرنا وظريف بلادنا وغزلها، قال: ويحك: ومن ذاك؟ فقالت: أشهد إن كنت لا تعرفه وأنت من أهل الوادي إنها لسوأة، ذاك يحيى بن طالب الحنفي، وأقسم بالله ما منعك من معرفته إلا غلظ الطبع، وجفاء الخلق، فجعل حيوس يضحك من قولها.
ويحيى بن طالب الحنفي من أهل اليمامة، وكان أديباً كريماً، فابتاع من عامل السلطان غلة ضيعة مما تحت يده يريد بها الربح، فأصاب الناس باليمامة قحط ومسغبة، ففرق يحيى تلك الغلة وأطعمهم إياها، وآن محل الوفاء، ولم يكن له شيء، فهرب إلى الري، وبها توفي.
وقد روى عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: غنيت بين يدي الرشيد:
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة ... إلى قرقري قبل الممات سبيل؟!
فأشرب من ماء الحجيلاء شربة ... يداوى بها قبل الممات عليل
فيا أثلات القاع من بطن توضح ... حنيني إلى إظلالكن طويل
ويا أثلات القاع قلبي موكل ... بكن وجدوى نيلكن قليل
ويا أثلات القاع قدمل صحبتي ... مقامي، فهل في ظلكن مقيل
أحدث عنك النفس أن لست راجعاً ... إليك فهمي في الفؤاد دخيل
أريد رجوعاً نحوكم فيصدني ... إذا رمته
دين على ثقيل
فطرب الرشيد، وسأل عن قائل هذا الشعر: من هو؟ فقلت: هو يحيى بن طالب الحنفي، شاعر من أهل اليمامة، وإنه لحي، وهرب إلى الري من دين غلبه، وقد ذكر ذلك في شعره هذا، فقال:
أريد رجوعاً نحوكم فيصدني ... إذا رمته
دين على ثقيل
فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامل الري بقضاء دينه، وإعطائه نفقة، وإنفاذه على البريد، فوصل الكتاب إلى الري يوم مات يحيى بن طالبن وقيل: مات قبل وصوله بشهر.
وقلت:
أين السلو من المروع بالنوى ... أبداً، فلا وطن ولا خلان
عيد البرية موسم لعويله ... وسرورهم فيه له أحزان
وإذا رأى الشمل الجميع تزاحمت ... في قلبه الأمواه والنيران
قال أبو الفرج الوأ واء:
ها قد تبدلت أوطاناً بأوطان ... عمداً، وفارقت إخواناً لإخوان
فليبلغ الشوق بي أقصى مراتبه ... إلى بدور على قضبان كثبان
وكتب إلي القاضي المهذب أبو محمد حسن بن علي بن الزبير قصيدة أنفذها من أسوان، وانا بمصر، منها:
أأحبابنا مالي إذا ما ذكرتكم ... وما أنا ناس
غال صبري غول؟
وإن شام برق الشام طرفي وشمرت ... على البعد عنه للظلام ذيول
تدارك قلبي أن يطير صبابة ... بنان كأنبوب اليراع نحيل
وخيل لي أن السيوف بجوه ... سللن، وأني بينهن قتيل
لئن أقفرت منا الديار ومنكم ... وأمست مغانيهن وهي طلول
فإن لنا في آل منقذ أسوة ... يهون لديها الخطب وهو جليل
نبت بهم أوطانهم فترحلوا ... وللمجد في ذاك الرحيل رحيل
بلاد بها من عزهم وعطائهم ... وعور لمن ينتباها وسهول
وللدهر من أيمانهم ووجدوههم ... بها غرر ما تنقضي وحجول
خلت، فالربيع الغض محل لفقدهم ... بها والصباح المستنير أصيل
وساروا على رغم العدا، ودليلهم ثناء لهم في الخافقين جميل
وما كنت أدرى قبل أن يترحلوا ... بأن الجبال الراسيات تزول
أذلوا خطوب الدهر قهراً فبينهم ... قديماً وبين الحادثات ذحول
وقال أبو بكر بن اللبانة:
قد طال بي أقطع البيداء منفرداً ... وليس يسفر عن وجه المنى سفر
كأنما الأرض عني غير راضية ... فليس لي وطن فيها ولا وطر
قلت: لي أبيات تشابه هذا المعنى، وهي: