أم أنا معذور إذا ... سألت عنه الطللا
بلى عدمت الناز ... لين فبكيت المنزلا
عثرت في غدرك بي ... عثرة من لا وألا
كان دلالاً فغفر ... ناه، فتم مللا
قال الله تبارك وتعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم، لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ... ) الآية: قال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار، وإن لم يكن فيه أبنية، وسميت داراً لدورها على سكانها، كما سمى الحائط حائطاً؛ لإحاطته على ما يحويه.
قال القاضي الماوردي - رحمه الله -: إن قيل: هل يسفك أحد دمه، ويخرج نفسه من دياره؟ ففيه قولان: أحدهما معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من دياره.
والثاني: أنه القصاص الذي يقتص منهم بمن قتلوه، فصاروا قاتلين لأنفسهم بالقصاص.
وقوله تعالى: (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يخرج بعضكم بعضاً.
والثاني: لا تسيئوا جوار من جاوركم، فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم.
والثالث: لا تفعلوا ما تخرجون به من الجنة التي هي داركم.
قوله عز وجل: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار) .
(أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب) : يعني يهود بني النضير. (من ديارهم) : يعني منازلهم بالحجاز. (لأول الحشر) : أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أحد إلى أذرعات الشام، وأعطى كل ثلاثة نفر بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم - حين هاجر إلى المدينة - ألا يقاتلوا معه ولا عليه، فكفوا يوم بدر، لظهور المسلمين على المشركين، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قتله محمد بن مسلمة - رحمه الله - غيلة، وسأذكر قتله بعد الفراغ من تفسير هذه الآية، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً، حتى أجلاهم عن ديارهم.
وقوله تعالى: (لأول الحشر) : أنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، وقيل: أول حشرهم أنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - لما أجلاهم -: (هذا أول الحشر، وأنا على الأثر) وقيل: أول حشرهم؛ لما ذكره قتادة - رحمه الله -: أنهم يأتي عليهم بعد ذلك نار من مشرق الشمس تحشرهم إلى مغربها، تبيت معهم إذا باتوا، وتأمل من تخلف.
كان قتل كعب بن الأشرف في ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة. قال ابن إسحاق - رحمه الله - إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة - رحمه الله - إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه، وقتل من قتل من المشركين، قال كعب بن الأشرف - وكان رجلاً من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير - حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما - فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى أتى مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن صبيرة السهمي، وعنده عاتكة ابنة أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن [عبد] مناف، فأنزله وأكرمه، فجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر، فمن ذلك قوله:
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها ... ولمثل بدر تستهل الأدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من ابيض ماجد ... ذي بهجة تأوي إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت ... حمال أثقال يسود ويرفع
ويقول أقوام ... أثير بشحطهم
إن ابن الأشرف ظل كعب يجزع
صدقوا، فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسوخ بأهلها وتصدع