الضحّاك بن قيس على ما في سلطانه من أرض الجزيرة، وكان في يديه حرّان والرقّة والرها وقرقيسيا.
وكان قد هرب إلى الجزيرة كلّ من كان بالبصرة والكوفة من العثمانيّة، فنزلوا في سلطان معاوية.
فسار الأشتر يريد الضحّاك فاستمدّ الضحّاك أهل الرقّة فأمدّوه، وكان جلّ أهلها عثمانيّة، فأتوه وعليهم سماك بن مخرمة [الأسديّ]، وأقبل الضحّاك يستقبل الأشتر، فالتقى الضحّاك وسماك بمرج بين حرّان والرقّة. وجاء الأشتر فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل، وباتوا. فسرى الضحّاك من ليلته حتّى أصبح بحرّان وامتنع بها. وأصبح الأشتر وقد بلغه ذلك، فسار حتى نزل عليهم فحصرهم بحرّان. وبلغ ذلك معاوية فبعث إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل، فبلغ ذلك الأشتر فعبّأ جنوده ونادى أهل حرّان: ألا إنّ الحيّ عزيز! ألا إنّ الذّمار منيع! ألا تنزلون؟ أيّتها الثعالب الرّوّاغة انجحرتم انجحار الضّباب.
فنادوا: يا أعداء الله، أقيموا قليلا، أعلمتم أن قد أتيتم؟
فمضى الأشتر، وعاد عبد الرحمن من غير لقاء.
ثمّ لمّا بعث عليّ جرير بن عبد الله البجليّ إلى معاوية يدعوه إلى البيعة، وعاد بغير شيء، قال الأشتر: والله يا أمير [25 أ] المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه وأقام حتى لم يدع بابا يرجو روحه إلّا فتحه أو يخاف غمّه إلّا سدّه (?).
فقال جرير: لو كنت والله بيهم لقتلوك- وخوّفه بعمرو بن العاص وذي الكلاع وحوشب ذي
ظليم، وقال: لقد زعموا أنّك من قتلة عثمان.
فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم ولم يثقل عليّ محملها، ولحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر.
قال: فائتهم إذن!
قال: الآن، وقد أفسدتهم.
ووقع بينهما الشرّ، وقال الأشتر لعليّ: أليس نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا وأخبرتك بعدوانه وغشّه؟
وأقبل على جرير يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة، إنّ عثمان اشترى منك دينك بهمذان! والله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض حيّا أبدا! إنّما أتيتهم لتتّخذ عندهم مودّة بمسيرك إليهم، ثمّ رجعت إلينا من عندهم تهدّدنا بهم. أنت والله منهم، ولا أرى صنيعك إلّا لهم، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنّك وأشباهك حتّى تستقيم هذه الأمور، ويهلك الله الظالمين.
فقال جرير: وددت والله أنّك كنت مكاني بعثت، إذن والله لم ترجع!
وخرج فلحق بقرقيسيا ولحق به طائفة من قومه، فلم يشهدوا صفّين. وقال الأشتر فيما خوّفه به جرير [الوافر]:
لعمرك يا جرير لقول عمرو ... وصاحبه معاوية الشآميّ
وذي كلع وحوشب ذي ظليم ... أخفّ عليّ من زفّ النعام
إذا اجتمعوا عليّ فخلّ عنهم ... وعن ليث مخالبه دوام
فلست بخائف ما خوّفوني ... وكيف أخاف أحلام النيام؟