الجند. وكان شجاعا لكنّه كان ثقيل الطلعة بغيض المراجعة والمحاققة وإذا سكر عربد بالكلام على المعظّم ويقول: إنّ خبزي لا يصلح لغلام من غلماني، فإنّي دخلت وصنعت في اليوم الفلاني وفي الوقعة الفلانيّة- ويعدّد ما يفطر بها أكباد الحاضرين- والسلطان يضاحكه ويباسطه ويجاوبه بلطافة. فطال ذلك وصار يقول: أريد دستورا (?).
فقلت له يوما: أنت ملك عظيم وليس على يدك يد، ولا لك عدوّ تخافه، وجرايتك وافرة، وجندك كثر وبلادك واسعة، فعلام تحتمل من هذا ما نشاهد منه في كلّ ليلة؟
قال: اعلم أنّنا في مجلس المنادمة، وأنّه يحسن الحرب، وقد عاينت مواقفه فأحببت أن أعطيه خبزا يصلح لعشرة أمثاله، وعلمت أنّه ما له غاية ولا قناعة في الطلب، فنفسه طمّاعة على قدر شجاعته وتهوّره في الحرب. وإنّما يصدر هذا منه في حال السكر فإذا صحا تراجع وظهرت في وجهه الندامة والحياء. فأنا أحتمل منه ذلك ضنّا بالأجناد ولا أتسامح بإبعاد أصحابي عنّي، وفي الأخباز سعة تحتمل أن يزاد أكثر ممّا في يده، وإنّما أتوقّى أن تنفتح [178 - أ] عيون الأجناد لمثل طلبه فينفتح علينا باب ليس عندنا ما يغلقه. والأيّام تحكم وتعمل.
فلم يزل على ذلك إلى أن حضر مصافّ الفرنج فقال له المعظّم: إلى كم تصدع رأسي بطلب الزيادة؟
اليوم أرى فعلك ويظهر إن كنت مستحقّا أم لا.
فحمي واغتاظ وجعل يقتل الفارس بعد الفارس من المشهورين ولم يرجع عن فعله إلى أن اجتمع عليه داربة (?) الفرنج فقتلوه. فقال المعظّم: صبرنا
عليه في الدنيا وحملناه على الفوز بالشهادة في الآخرة- وقسم خبزه بعد ذلك على عشرة من الأجناد، وكان حالهم فيه طيّبا.
ولو لم يكن له فيما يؤثر عن الملوك إلّا عنايته بطريق الحاجّ، فإنّها صارت في أيّامه وبعده سابلة ذات منازل آهلة يوجد فيها العلف وغيره، وأنف أن يتكلّم أحد في خفارة وحسم موادّ ذلك.
وكانت عادته أن يقسم الليل أثلاثا، فيشرب في الثلث الأوّل ويخلو بلذّاته، وينام الثلث الثاني، ويدخل الحمّام في الثلث الثالث ويصلّي ويطالع.
ومن مليح ما يحكى عنه أنّه رفع إليه أنّ عامله بالكرك بنى دارا استعان فيها بجاه الدولة، فقال:
نعم ما فعل: أظهر النعمة وأحسن الظنّ بنا!
ومن مختار شعره قوله عند ما مات أبوه الملك العادل [الطويل]:
يقول أناس يعلمون فضائلي ... وعظم ارتياحي للمكارم والمجد
ألا تحضر المرحوم في حال دفنه ... فقلت، ولي قلب يفتّت بالوجد
خشيت أرى الملك والإسلام والعلى ... وبذل النّدى والحلم يودع في اللّحد
وقوله [الكامل]:
يا درّة الغوّاص بل يا ظبية ال ... قنّاص بل يا دمية المحراب
عاديت فيك عصابة كانوا على ... قرب الديار وبعدها أحبابي