وينقل الجاري له على الخدمة بالشعر راتبا على حكم الضيافة.
فقال: ما منعك أن تستعفي في أيّام الصالح وابنه؟
قال: كانت لي أسوة بالشيخ الموفّق ابن الخلّال والقاضي الجليس ابن الجبّاب، وبابني الزبير، الرشيد والمهذّب، وبأبي الفتح محمود بن قادوس وغيرهم. وقد انقرض الجيل والنظراء، وصار تكسّبي بالشعر وتظاهري به منقصة.
فأعفاه، وكتب له سجلا علّم عليه الخليفة العاضد بذلك، فمدحه على هذا بأبيات. فلمّا احترقت مدينة مصر نهبت داره فلزمه دين كبير أدّاه شاور عنه وأعطاه مائة دينار عينا ومائة كبش باعها بمائة وعشرين دينارا، فمدحه بقصيد.
وشكا ابن دخان صاحب الدولة إلى شاور من عمارة، وأنّه يناكده في الجاري الذي له، وقال لشاور: إمّا صنتني منه وإلّا استعفيت.
فقال شاور: يا هذا، استح على نفسك من مناكدة رجل يأكل معي في إناء واحد كلّ يوم مرّتين.
فصار بعد ذلك خاصّة الدولة ابن دخان يكارم عمارة ويسارع إلى قضاء حوائجه ويقبل شفاعته فيما لا يسوغ. ووقعت الشمعة في بعض الليالي على طرف ثوب عمارة فجمد عليه سير من الشمع. فلمّا قام من المجلس إلى داره بعث إليه شاور في الحال مع الفرّاش بعشر نصافيّات رفاع.
فلمّا أصبح حضر إلى شاور فقال له: قل للفرّاش تحبّ العشرة.
فقال عمارة: نعم، هو يحبّهم- وقصد شاور استفهام عمارة عن وصول ذلك إليه.
وما برح عند شاور مكرّما، وقلّ أن تمضي ليلة إلّا ويحمل إلى دار عمارة من مجلس شاور ألطاف، وفي الدائم تحمل إليه كلّ ليلة الحلوى الكثيرة، مع تفقّده في كلّ شهر من الدنانير بما يزيد على عشرين دينارا. ويقول مع ذلك: ما تركنا الزمان نفعل في حقّك يا عمارة ما يجب- ويقول إذا غاب عنه: لعن الله مجلسا لا يحضره عمارة!
وترقّت به الحال حتّى صار يشفع عند شاور فيمن يأمر بقتله فيقبل شفاعته ويقول للمشفوع فيه: والله لولا عمارة لضربت رقبتك! واختصّ به عمارة اختصاصا زائدا.
فلمّا زالت الدولة واستولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب استمرّ على غير ما كان عليه إلى منتصف شعبان سنة سبع [172 - أ] وستّين فقبض عليه. وسببه أنّ القاضي الفاضل كان من عادته إذا لقي عبد الصمد الكاتب أن يخدمه عبد الصمد ويبالغ في التواضع له. فلقيه في بعض الأيّام فلم يلتفت إليه. فخاف الفاضل أن يكون قد باطن السلطان صلاح الدين عليه، فاستدعى بزين الدين عليّ بن نجا الدمشقيّ وأعلمه بما جرى له مع عبد الصمد والتمس منه أن يكشف له عن الخبر. فعاد إليه وأعلمه أنّه كشف عمّا أشار به، فلم يجد من قبل السلطان شيئا يخشاه، وأنّ السبب في إعراض عبد الصمد هو أنّ عمارة وجماعة من أهل القصر قد اتّفقوا على إقامة خليفة ومحاربة السلطان- وكان ابن نجا يعرف أنّ بين الفاضل وبين عمارة عداوة من أيّام العاضد- فقال الفاضل لابن نجا: تحضر الساعة عند السلطان وتنهي الحال إليه.
فقام من فوره إلى السلطان وهو ينتظر صلاة الجمعة بالجامع، وجلس إليه وأعلمه أنّ عمارة وعبد الصمد الكاتب والقاضي العوريس وابن عبد القويّ الداعي وضياء الدين المفضّل ابن كامل