فإذا احتمل الحديث أن يحمل على هذا لم يصح أن يفرق بين عقد البيع وسائر العقود اللازمة باللفظ، إلا بنص جلي لا يحتمل التأويل، وليس ذلك بموجود في مسألتنا هذه، بل ظاهر القرآن وما في السنن الثابتة والآثار، يدل على أن الأملاك المبيعة تنتقل بتمام اللفظ بالبيع على ما يتراضى عليه المتبايعان وإن لم يفترقا بأبدانهما، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فوصف تعالى التجارة التي تنتقل بها الأملاك بالتراضي خاصة دون التفرق بالأبدان، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه». فظاهره قبل الافتراق وبعد، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق بيعه بعد الاستيفاء من غير أن يقيد ذلك بالافتراق؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع أو يترادان» فسواء كان اختلافهما قبل التفرق أو بعده على ظاهر الحديث، والتراد إنما يكون بعد تمام البيع، وإنما أدخل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث في موطئه عقيب حديث البيعان بالخيار، على طريق التفسير له والبيان لمعناه.
فصل
وأما قول من قال: إن حديث البيعان بالخيار، منسوخ بحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان» وما أشبهه من ظواهر الآثار، فلا يصح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض من الأخبار، ولا يمكن الجمع بينهما، والجمع بين هذين الحديثين ممكن بحمل التفرق المذكور في الحديث على التفرق بالأبدان أو التفرق بالكلام، وإنما يستدل على أنه منسوخ