المقابسات (صفحة 258)

قيل له: فما الشريعة؟ قال: هيئة في آخر الذروة البشرية، تصدر عن القوة الآلهية، وتنشأ لها من النفس فواتح طبيعية، وأوائل حسية.

قيل له: أفما صدر من العلو أشرف أم ما نشأ عن السفل.

فقال: فاتحة القوة الصادرة من هناك أشرف، وغاية الناهية من ها هنا أسرف. قال: وما يوضح هذا أن تلك ترسخ في الزمان بعد الزمان لأنها في غايتها تقوي وتصح وتظهر وتنبث وتتمكن وتثبت. وسعادة الشريعة علمية وفيها أفناء الحكمة، وسعادة الفلسفة عملية وفيها حقائق العمل، والعمل وصف آلهي، والعمل نعت بشري، وتلك استصلاح القوب النافرة، واستجماع النفوس الشاردة الآبية. وهذه روح للنفوس المكروبة، وجلاء للصدور الصدية، وارتقاء إلى المعارف العلية، بالسيرة المحمودة المرضية. وتلك تعطيك جملة مقنعة، وهذه تعطيك مفصلة مونقة. ومتى أراد شرعي أن يعرف الطبيعة والنفس والعقل والأول وآثارها وأسرارها وعيونها وودائعها وما في أعماقها، قد ألقي إليه، وقصر باله عليه، ونبطت عروقه، وفجر ينبوعه منه، لم يجد سبيلاً إلى حرف منها إلا برمز غير شاف، وعلامة غير بالغة، ودعوى غير مثبتة. ومتى رام فيلسوف أن يضع ناموساً إلهياً محلا بالكلمات الصحيحة، مؤيداً بالعقول السليمة، مجموعاً فيه مصالح البرية، قدر علىذلك. وقد تم هذا في قديم الدهر عند مس الحاجة إليه ثم دثر على الأيام كما دثر سائر ما يأتي عليه الزمان.

وكان جميع ما ثقفناه ولقناه عن الشيوخ في مجالس مختلفة مع جماعة متفاوتة فلذلك ما استوثق هذا القدر الذي ملكته هذه المقابسة، وقد بقي شيء يسير وأنا أجمله بتمامه إن شاء الله تعالى.

قيل: فما الموجود؟ قال: ليس فوقه ما ينعت به، ولا دونه ما يحط إليه، لأنه لولان فوقه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015