كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية القحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قحطانيين وجعل العربية الأولى عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عربًا مستعربة، إلى غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعًا لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار أنهم كانوا هم اللب والأصل، وأن خصومهم جاء إليه الحكم عفوًا، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار.
وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية، فقال "ابن فارس": "فأما من زعم أن ولد إسماعيل -عليه السلام- يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية فليس اختلاف اللغات قادحًا في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن مَنْ سواهم العرب المتعربة، وأن إسماعيل -عليه السلام- بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة أبيه صلى الله عليه وسلم، العبرية"1. فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب، وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين، وأن من سواهم فغم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة.
وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي، وهو آخر التهذيب اللغوي، فأقول أنها أقوال بنيت على أخبار صنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام. عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة.
أو بين اليمن ومكة، ازدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسانَ قريش، والله تعالى يقول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيًّا"2.