في جاهلية إلى مكة، اللهم إلا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عامًا عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.
وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الخاصة بهم. فلا نفوذ لقريش إذن عليهم من ناحية الدين.
نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الإجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب؟ ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الإيمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات من السنين؟ ثم ماذا تقول من إشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه1؟ وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به2؟ ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج؟ ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور الدين؟
أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية، التي تحدثت عنها، وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضًا. وأما الشعر الذي نسب إلى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا الكتاب3. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى