الأمور باللغة، ومن قال من القدماء إن قريشًا فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضًا، أو أن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش؟ أو أن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرًا كبيرًا في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع أننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم إننا نرى أن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر أن القبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وأن أهل الطائف، أي: ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وأن "أهل الحجاز"، أي: قريش وغيرهم، كانوا يتكلمون بلهجات خاصة، سمّاها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"، أو "حجازية"، وقالوا: "ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، ولقالوا: "لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك أننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وإنما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجاز مما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وأن لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا أنها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة1.
ثم من في استطاعته اليوم إثبات أن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثر عليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلاف ذلك، تثبت بالدليل القاطع أن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى أن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش! مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها، والتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وإنما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة