و"هرب مذحجو"، و"مدينة شمر"، و"ملك معدو"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، و"هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح أن أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. وفي نص "شرحيل بن ظالم"، الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو: "أنا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهو نص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، بحيث تشعرك أن النص وإن كان كالنص السابق قد دوّن بلهجة متأثرة بالنحو النبطي، غير أن أصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم إذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تأكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلي.
وحيث أن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب أصحابه شاهد قبره، باللغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة أصحابه إذن، هي لغة "ال"، أي: العربية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، أن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في القرن الرابع للميلاد، أي: قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد "النابغة" الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل أن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقبل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل.
ثم إن ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعر والشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، يقفون على أبوابهم ساعات وأيامًا ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لإنشادهم أشعارهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول أهل الأخبار- أيامًا يسمح فيها للشعراء بالتباري في إنشاد أشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر، أو أنهم كانوا قد اتخذوا موسمًا يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري بقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسب وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر! لقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة قدوة لملوك بني أمية ولبني العباس في تبنّيهم الشعر والشعراء،