ولطول الطرق وبُعد المسافات، كان على القوافل استرضاء كبار سادات القبائل للحصول على حمايتهم، ومعنى هذا دفع إتاوات لهم، وتحميل المشترين تلك الإتاوات. وهذا مما زاد في الأسعار وجعل الأثمان عالية، وقد أضر ذلك بالتجارة العربية ولا شك، كما أضر بالمنتجين الذين كانوا يبيعون إنتاجهم اليسير, وأكثره مواد خام يتعيشون عليها, بأسعار بخسة لسد رمقهم في هذه الحياة.
وقد عمد تجار مكة -كما ذكرت ذلك في مواضع من هذا الكتاب- إلى أساليب مختلفة في استرضاء سادة القبائل الذين تمر بأرضهم قوافلهم، منها استرضاؤهم بالمال، وإشراكهم معهم في رأس المال، بتقديم ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها في الأسواق، أو بشراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق وتقديمه لهم، ومنها التصاهر معهم، ودعوتهم لزيارة مكة وتقديم الهدايا لهم، ثم ضبط كل ذلك بعقود "الإيلاف"، التي وضعت قواعد وأصول وحقوق مرور قوافل مكة وقوافل تجارها الخاصة في كل الأيام والمواسم بأمن وسلام، في مقابل تعهدات وعقود عينت بعقود الإيلاف.
وكان كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز يتخفر بقريش ما داموا في بلاد مضر؛ "لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري, وكان ذلك بينهم. فكانت كلب لا تهيجهم لحلفهم بني تميم، وطيء أيضا لا تهيجهم لحلفهم بني أسد. وكانت مضر تقول: قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا إسماعيل من الدين, فإذا أخذوا طريق العراق، تخفروا ببني عمرو بن مرثد، من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز ذلك لهم ربيعة كلها"1. وهكذا تمكنت قريش من تأمين مصالحها التجارية بعقد الأحلاف مع سادات القبائل، وصار تجارها يتنقلون في مختلف أنحاء جزيرة العرب بحرية وأمان.
والجمال هي واسطة النقل في جزيرة العرب، هي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد. وليس في استطاعة حيوان آخر القيام بمثل تلك المشاق من قطع المسافات البعيدة في أماكن لا ماء فيها إلا في مواضع متباعدة, وفي أماكن يتغلب عليها الجدب والشظف. كان على ذلك الحيوان أن يتحمل ثقل ما يوضع على ظهره، وأن يسير به مسافات طويلة، ثم عليه أن يتحمل العطش والجوع. ولولا الخواص الجسمية