وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزيع الخصب إلى الجدب تباينًا كبيرًا في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتها، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض، فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع، وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبين الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فلما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض الاستقرار، وأضاقوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري.

واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وأن تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ؛ لأن جذوره وأسسه واحدة، هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، ويحتطبها البدو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لاستعماله وقودًا لهم، أو فحمًا يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملح، يحلمونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة، تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت إليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة، لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات.

أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف الجزيرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبه غنية بالماء والمزارع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015