المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم؛ لأنهم لا يمكلون شيئًا، والذي لا يملك شيئًا ويجهل قيم الأشياء بحسب كل شيء يقع في يديه ثمينًا له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب، ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متطور وانتاج كبير، وأن يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر إلى وأد بناتهم خشية إملاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر.
وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الحضر كذلك، تجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للإنسان الحضري الطيع الهادئ، تجد الملوك يحاربون بعضهم بعضًا، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شئوونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وأن يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان!
لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، وإلى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلًا طيبًا يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم، وصار معاشهم ضيقًا، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، أغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها، فصارت سلعهم قليلة، اقتصر على السلع الضرورية، جدًّا للبيت، وعلى الناتج الطبيعي المستحصل من الزرع أو من الحيوان ومن الحاصل المحلي في الغالب.