وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوبًا وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، أنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجد، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للأفراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتورفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدر منها إلى الخارج إلى القليل مثل الجلود، ثم هو أخر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء، وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجراد عليه. لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمي له فيه أهل وعشيرة وجوار.

أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب، صنعت من حديد استخراج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج، ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج؛ لأنها لم تكن بانتاج واسع ولا باتقان لتنافس السلع المماثلة لها في الخارج، بل نجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضًا، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان.

والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضًا في أثناء حديثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغريبة وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015