الدياس، فإنه أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم"1. وجاء في الحديث: "أهل اليمن هم أرق قلوبًا، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة"2.
ومن هنا صار الأعرابي جلفًا صعبًا خشنًا، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية.
والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة وبكميات كبيرة عن منبعه، ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة، ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تمامًا ولا بدوية تمامًا، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة، تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحب وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها إلى من حولها وإلى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفًا، ولكنها لم تكن حرفًا متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعية كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثمارًا واسعًا، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننة، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل وجهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد.
وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كيست بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها