ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لم يموت، ولم عاش، وإلى أين ذاهب، فإذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، أو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله إنسان في هذه الحياة من غير شك.

والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء، فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالًا على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله له من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أيامًا، وأن يرى نخلًا وشيئًا من شجر وخضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منا ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيها من ظرف

تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقيادًا من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظًا خشنًا، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده.

ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة، ومن أكثرهم تعاونًا فيما بينهم. جاء في الحديث: "أن رجلًا من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة؟ قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: ألقاه سرعة الإجابة وحسن المعاونة، يعني أن بعضهم يعاون بعضًا، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فإذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فإذا كان قاه أحدنا، أي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015