والنشاط. غير فعال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماء، فإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقيًا كافيًا لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن
أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المتشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل، أو الجو البارد المنشط.
وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه؛ لأنه يجد أمامه مناخًا أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، والحر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر، فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العربية الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بإرسال ألوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحرًا عجيبًا ينعش الروح والبدن، إذا مس إنسانًا أنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، وإذا مست عصاه أحدًا من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعرًا ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسد فمه، ويبرقع وجهه يبرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع أنه إنسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان،