لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزراع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ، وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهمارًا، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولًا تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلًا، وقد تبخل بخلًا شديدًا فلا تعطيها منه شيئًا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثًا عن الكلأ والماء.

وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعًا، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عامًا، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد، وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط" والجدب والمحل. و"القحط" الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة1. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم إذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملًا في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في إقحاط الزمان.

وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الآبار والعيون2، حتى قد يصير الشرب منها صعبًا، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آبارًا جديدة، تكلفهم مالًا وجهدًا، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة، ماءً عذبًا سائغًا فراتًا للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سده حاجتهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015