وإنما قصد أعرابًا من أعراب الروم، كانوا يعرفون بـ"بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوها فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وكانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، وأنها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وإيصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات التي ستأتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال.
ويظهر أن حكم كندة للحيرة لم يكن طويلًا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية في إيران1. وليس بمستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن. في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، أو على أثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين؛ لأنه وجد أن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرًا وتغلب قد زحفتا إذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة التي استولى عليها لقاء جعل2.
لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. فلما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارًا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف3.
لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحًا تامًّا، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس وإقطاعهم إياه أرضًا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى