يتفضل عليها بأن يكون ملكًا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كندة وتثور عليه، وتقتل أمراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكًا ما دام قويًّا والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو إمارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدود الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب، هكذا حياة المالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت.
ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لحم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولي الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيًا لـ"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا؛ إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للأغنياء وللإقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة، فلم يعجب قباذ الوضع؛ لأنه "ملك الملوك" "شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" ألا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس، فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين1. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وإن الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء "وإنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وإنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا