أعالي الحجاز فأقاموا بها، ثم سرعان ما استقروا وتحضروا وأقاموا يفلحون الأرض ويزرعونها، فأقاموا لهم مستوطنات زراعية. واستقروا في المدن والقرى، محترفين بمختلف الحرف وفي طليعتها التجارة وبالاشتغال بالقوافل التجارية التي تنقل التجارة بين مختلف الأمكنة، فجمعوا من ذلك مالًا وثراءً. وقد ذهب. بعضهم إلى أن أصلهم من العربية الجنوبية، وأن عرقهم هذا هو الذي جعلهم يشتغلون بالزراعة وبالعمارة وبالحرف التي كانت مألوفة عند العرب الجنوبيين منذ العهود القديمة1.
ولقد وجدنا طائفةً من العلماء تتنكر لهذا الرأي ولا تراه، وترى في الألفاظ العربية الممزوجة في الإرمية بكثرة، وفي تشابه الأسماء واشتراكها بين النبط والعرب، أثرًا من آثار الاختلاط والاتصال بحكم السكنى المشتركة والجوار، ولا علاقة له بوحدة الجنس، وترى لذلك أن النبط إرميون احتكوا بالعرب وتأثروا بهم، أو أنهم إرميون استعربوا من بعد2.
أما أن النبط من بني "إرم"؛ لأنهم كتبوا بلغتهم، واستخدموا قلمهم، فهو قول مردود، فقد كتب غير النبط ومن غير "بني إرم" بلغة "إرم" وبقلم "إرم"، ولم يقل أحد من العلماء إن جميع من كتب بلغة الإرميين وبقلمهم هم من "بني إرم" حتمًا. ولا يمكن أن يقال ذلك؛ لأن الإرمية كانت قد تغلبت على أكثر لغات الشرق الأدنى وصارت لغة الكتابة والتدوين قبل الميلاد وبعده بقرون. تغلبت على العبرانية مثلًا وزاحمتها حتى فضلت عليها عند المتكلمين بها من الخاصة والسواد إلى نهاية القرن السابع بعد الميلاد، فدونت بها كتب من "التركوم" والأدعية والشروح و"مجلة تعنيت" و"أنطيوغيوس" وغيرها من مؤلفات القرنين الثاني والأول قبل الميلاد3. وألفت بها فيم بعد الميلاد، فلا عجب إذن إذا ما دون النبط أو غيرهم من العرب بالإرمية لغة الفكر والثقافة، وتكلموا بلغة أخرى هي لغة اللسان4. وقد كان الأعاجم في الإسلام يتكلمون بألسنة أعجمية، ويدونون باللسان العربي لسان العلم الفكر والقرآن.