الحيلة تارة ويجهز الجيوش أخرى إلى أن استنزلهم؛ ففرق كلمتهم وشتت منتظم أمرهم، ونفاهم عن جميع تلك البلاد وصفت له أموره.
كان له عَيْنٌ1 بقرمونة يكتب له بأخبار البربر؛ بلغ من لطف حيلة المعتضد, وقد أراد أن يكتب إلى ذلك الرجل الذي جعله عينًا له بقرمونة كتابًا في بعض أمره، أن استدعى رجلًا من بادية إشبيلية شديد البله كثير الغفلة، وقال له: اخلع ثيابك؛ وألبسه جبة جعل في جيبها كتابًا وخاط عليه، وقال له: اخرج إلى قرمونة، فإذا وصلت بقربها فاجمع حُزمة حطب وادخل بها البلد وقف حيث يقف أصحاب الحطب، ولا تبعها إلا لمن يشتريها منك بخمسة دراهم؛ وكان قد قرر هذا كله مع صاحبه الذي بقرمونة؛ فخرج البدوي كما أمره المعتضد، فلما قرب من قرمونة جمع حزمة من الحطب، ولم يكن قبل هذا يعاني جمعه؛ فجمع حزمة صغيرة ودخل بها البلد، ووقف في موقف الحطابين، فجعل الناس يمرون عليه ويسومون منه حزمته، فإذا قال: لا أبيعها إلا بخمسة دراهم، ضحك من يسمع هذا القول منه ومر عنه؛ فلم يزل كذلك إلى أن أجنه الليل والناس يسخرون منه، فبعضهم يقول: هذا آبِنُوس! ويقول الآخر: لا بل هو عود هندي! وما أشبه هذا؛ حتى مر به صاحب المعتضد، فقال له: بكم تبيع حزمتك هذه؟ فقال: بخمسة دراهم! فقال: قد اشتريتها فاحملها إلى البيت؛ فقام يحملها والرجل بين يديه حتى بلغ بيته، فوضع الحزمة ودفع إليه الخمسة الدراهم. فلما أخذها وهم بالانصراف قال له: أين تريد في هذا الوقت وقد علمت خوف الطريق؟ فبت الليلة عندي، فإذا أصبحت رجعت إلى منزلك؛ فأجابه؛ فأدخله إلى بيت وقدم له طعامًا، وسأله كأنه لا يعرفه: من أين أنت؟ فقال: أنا من بادية إشبيلية؛ قال: يا أخي، ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وقد علمت نكد البربر وشؤمهم وهوان الدماء عليهم؟! فقال: حملتني على هذا الحاجة! ولم يظهر له أن المعتضد أرسله؛ فلم يزل الرجل يحادثه إلى أن أخذه النوم، فلما رأى غلبة النوم عليه قال له: تجرد من ثوبك هذا فهو أهنأ لنومك وأروح لجسمك! فتجرد الرجل ونام، وأخذ صاحب المعتضد الجبة ففتق جيبها، واستخرج الكتاب فقرأه وكتب جوابه، وجعله في جيب الجبة وخاط عليه كما كان؛ فلما أصبح الرجل لبس جبته، ورجع إلى إشبيلية وقصد باب دار الإمارة واستأذن، فأُدخل على المعتضد، فقال له: اخلع تلك الجبة؛ وكساه ثيابًا حسانًا فرح بها البدوي، وخرج من عنده فرحًا يرى أنه قد خلع عليه؛ ولم يعلم فيم ذهب ولا بم جاء! وأخذ المعتضد الكتاب من جيب الجبة فقرأه وتمم ما أراد من أمره.
وله في تدبير ملكه وإحكام أمره حيل وآراء عجيبة لم يسبق إلى أكثرها، يطول تعدادها ويخرج عن حد التلخيص بسطها.