عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور؛ وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه.
وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب وحدة نفس؛ كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس؛ كان قد استوى في مخافته ومهابته القريب والبعيد، لا سيما منذ قتل ابنه وأكبر ولده المرشح لولاية عهده صبرًا. وكان سبب ذلك أن ولده المذكور -وكان اسمه إسماعيل- كان يبلغه عنه أخبار مضمونها استطالة حياته وتمني وفاته، فيتغاضى المعتضد ويتغافل تغافل الوالد، إلى أن أدى ذلك التغافل إلى أن سكر إسماعيل المذكور ليلة وتسور سور القصر الذي فيه أبوه، في عُبْدان وأراذل معه، ورام الفتك بأبيه؛ فانتبه البوابون والحرس، فهرب أصحاب إسماعيل، وأخذ بعضهم فأقر وأخبر بالكائنة على وجهها؛ وقيل: إن إسماعيل لم يكن معهم وإنما بعثهم على ذلك، وجعل لمن قتل أباه المعتضد جُعْلًا سَنِيًّا، فالله أعلم. فقبض المعتضد على ابنه إسماعيل هذا واستصفى أمواله وضرب عنقه؛ فلم يبق أحد من خاصته إلا هابه من حينئذ.
وبلغني أنه قتل رجلًا أعمى بمكة كان يدعو عليه بها؛ كان هذا الرجل من بادية إشبيلية؛ كان المعتضد قد وضع يده على بعض مال لهذا الرجل الأعمى، وذهب باقي ماله حتى افتقر، ورحل إلى مكة، فلم يزل يدعو على المعتضد بها إلى أن بلغه عنه ذلك، فاستدعى بعض من يريد الحج وناوله حُقًّا1 فيه دنانير مطلية بالسم، وقال: لا تفتح هذا حتى تدفعه إلى فلان الأعمى بمكة؛ وسلم عليه عنا! فاتفق أن سلم الرجل ومعه الحق، فحين وصل مكة لقي الأعمى ودفع إليه الحق، وقال: هذا من عند المعتضد؛ فأنكر ذلك الأعمى، وقال: كيف يظلمني بإشبيلية ويتصدق عليَّ بالحجاز؟ فلم يزل الرجل يخفضه إلى أن سكن وأخذ الحق، فكان أول شيء فعله أن فتح الحق وعمد إلى دينار من تلك الدنانير فوضعه في فمه، وجعل يقلب سائرها بيده، إلى أن تمكن منه السم، فما جاء الليل حتى مات؛ فاعجب لرجل بقاصية المغرب يعتني بقتل رجل بالحجاز!.
وقتل على هذه الصورة رجلًا من المؤذنين من أهل إشبيلية؛ فر منه إلى طليطلة، فكان يدعو عليه بها في الأسحار، مقدرًا أنه قد أمن غائلته إذ صار في مملكة غيره. فلم يزل يعمل فيه الحيلة إلى أن بعث من قتله فجاءه برأسه.
وكان أكبر من يناويه2 من المتغلبين المجاورين له وأشدهم عليه: البربر في صنهاجة، وبنو برزال الذين بقرمونة وأعمالها من نواحي إشبيلية؛ فلم يزل يصرف