الرجل؛ فقام كما هو من فوره، وكان ملتفًّا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفُق على نفسه، وأنا بين يديه، وهو يوسعني لومًا، حتى ترامى على الرجل وعانقه، وجعل يقبل رأسه ويديه ويقول: يا مولاي اعذرني، فوالله ما أعملني هذا الجِلْفُ1 إلا الساعة؛ وجعل يسبني، والرجل يُخفِّض عليه ويقول: ما عرفني؛ وأبي يقول: هَبْهُ ما عرفك، فما عذره في حسن الأدب.
ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلًا؛ ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيًا حتى بلغ الباب، وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت، وحلف عليه ليركبنَّها ثم لا ترجع إليه أبدًا.
فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، أيسر محفوظاته كتاب الأغاني؛ وما حفظه في ذكاء خاطره وجودة قريحته.
سمعت هذه الحكاية من أبي بكر بن زهر -رحمه الله- حين دخلت عليه وقد وفد على مراكش لتجديد بيعة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن أبي يوسف في شهور سنة 595.
وأنشدني الوزير أبو بكر المذكور في هذا التاريخ لنفسه -بعد أن سألني عن اسمي وعن نسبي فتسميت وانتسبت، وتسمى لي هو -رحمه الله-, وانتسب من غير استدعاء، تواضعًا منه وشرف نفس وتهذيب خلق، قدس الله روحه وسامحه: من البسيط
لاح المشيب على رأسي فقلت له: ... الشيب والعيب, لا والله ما اجتمعَا
يا ساقيَ الكأسِ لا تعدل إليَّ بها ... فقد هجرت الحُمَيَّا والحميم معَا! 2
وأنشدني -رحمه الله- وقال: احفظ عني: من البسيط
إني نظرت إلى المرآة إذ جُليتْ ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتَا
رأيتُ فيها شُيَيْخًا لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتَى
هذا ما أنشدني لنفسه بلفظه -رحمه الله-. وله شعر كثير أجاد في أكثره. وأما الموشحات خاصة فهو الإمام المقدم فيها, وطريقته هي الغاية القصوى التي يجري كل من بعده إليها؛ هو آخر المجيدين في صناعتها، ولولا أن العادة لم تجر بإيراد