ثم خطر لي بيت ثانٍ، وهو:
للشيخ عَيْبَة عيبٍ ... وللفتى ظَرْفُ ظَرْفِ1
قال: فنظر إليَّ المؤدب وقال: يا عبد المجيد، ما الذي تكتب؟ فأريته اللوح؛ فلما رآه لطمني وعرك أذني وقال: لا تشتغل بهذا! وكتب البيتين عنده.
ومن غزارة حفظه -رحمه الله- ما حدث الوزير الأجل أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زُهْر بن عبد الملك بن زهر2 -وكان أبو بكر هذا قد مات عن سن عالية، نيف على الثمانين- قال:
بينا أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني3 فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها؛ فقلت له: أين الأصل الذي كتبت منه لأقابل معك به قال: ما أتيت به معي؛ فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بَذُّ الهيئة، عليه ثياب غليظة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها4 من غير إتقان لها؛ فحسبته لما رأيته من بعض أهل البادية، فسلم وقعد وقال لي: يا بني، استأذن لي على الوزير أبي مروان؛ فقلت له: هو نائم؛ هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف؛ حملني على ذلك نزوة الصِّبا وما رأيت من خشونة هيئة الرجل. ثم سكت عني ساعة، وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟ فقلت له: ما سؤالك عنه؟ فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب! فقلت: هو كتاب الأغاني؛ فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا، وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه، فقال: وما لكاتبك لا يكتب؟ قلت: طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض به هذه الأوراق، فقال: لم أجئ به معي؛ فقال: يا بني، خذ كراريسك وعارض؛ قلت: بماذا؟ وأين الأصل؟ قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي؛ قال: فتبسمت من قوله، فلما رأى تبسمي قال: يا بني, أمسك علي؛ قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ، فوالله إن أخطأ واوًا ولا فاء؛ قرأ هكذا نحوًا من كراستين، ثم أخذت له في وسط السِّفْر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء.
فاشتد عجبي، وقمت مسرعًا حتى دخلت على أبي, فأخبرته بالخبر ووصفت له