توفي أبو جعفر هذا في شهر صفر من سنة 610 وقد كملت له ست وتسعون سنة؛ لم يبق في الأندلس أعلى روايةً منه في كل ما يُروى، ولم أر قبله ولا بعده -مع اتساع علمه وشدة تمييزه وحسن اختياره ومعرفته بعلل هذه الصناعة- أكثر إنصافًا منه ولا أسرع رجوعًا إلى الحق. كنت أنشده من شعري على ركاكته1 وكثرة تكلفه وبعده من الجودة أبياتًا لا أعدها شيئًا؛ يحملني على إنشادها إياه فرط استدعائه ذلك مني؛ فيلهج2 بها ويشتد استحسانه لها، وربما درسها فحفظها.
أنشدته يومًا -وقد استدعى مني ذلك على عادته- بيتين ارتجلتُهما في شاب كان يقرأ معنا, كان شديد العفة -رحمه الله- مع حسن رائع وظرف ناصع، كان اسمه فتحًا وهما: من المجتث
يا من له عن كِنَاسٍ ... من المتيم قلبُهْ3
ما أنت كاسمك فتحٌ ... وإنما أنت قلبُهْ
فطرب والتفت إلى ابنه وقال له: هذا والله الشعر، لا ما تصدعني به طول نهارك؛ إن كنت تقول مثل هذا وإلا فاسكت! فلما كان من الغد قال لي رحمه الله: أعلمتَ ما صنع عصام أمس؟ قلت: لا؛ قال: كان كما قالوا في المثل: سكت ألْفًا..؛ لم يزل أمس يُعمل فكرته، فبعد الجهد الشديد أخذ معنى بيتيك فسلبه رُوحه وأعدمه رَوْنقه ومسخه4 جملة فقال: من المجتث
سبى فؤادي خِشْفُ ... فقوتي اليوم ضَعْفُ5
سموه فتحًا مجازًا ... وفي الحقيقة حتفُ! 6
ما زاد فيه أكثر من المجاز والحقيقة؛ فقلت أنا: هذا والله أحسن من شعري! فتغير لي وقال: يا بني، دع عنك هذه العادة؛ فإن أسوأ ما تخلق به الإنسان: المَلَق7 وتزيين الباطل، سيما إذا أضاف إلى ذلك الحَلِف الكاذب. والله إنك لتعلم أن هذا ليس بشيء، وإلا فقد اختل ميزك وساء اختيارك، وما أظن هذا هكذا.