يا لَهْفَ زَيَّابة للحارث الـ ... ـصابح فالغانم فالآيبِ1

فلما انتهينا منها إلى قوله:

والله لو لاقيتُه خاليًا ... لآبَ سَيْفَانا مع الغالبِ!

قال لنا2: أحدثكم بأعجب ما اتفق لي في هذا البيت؛ وذلك أن أمير المؤمنين أبا يوسف -رحمه الله- لما فصل عن قرطبة متوجهًا إلى لقاء الأدفنش -لعنه الله- قال لي ولدي عصام بعد انفصاله بليلة أو ليلتين: يا أبتِ، رأيت البارحة أمير المؤمنين داخلًا قرطبة وقد رجع من السفر وهو متقلد بسيفين! فقلت: يا بني، لئن صدقت رؤياك هذه ليَهزمن الأدفنشَ -لعنه الله-! وخطر لي هذا البيت:

والله لو لاقيته خاليًا ... لآب سيفانا مع الغالبِ

فصدقت الرؤيا والتعبير.

وأبو جعفر هذا المذكور، آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس. لزمته نحوًا من سنتين، فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب أو مثل سائر أو بيت نادر أو سجعة مستحسنة منه، رضي الله عنه وجازاه عنا خيرًا. أدرك جلة من مشايخ الأندلس فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره وصدق محبته وإفراط شغفه بالعلم. قال لي ولده عصام -وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قُرئت علي أو أكثرها فألفيتها شديدة الصحة- فقلت له: لقد كتبتَها من أصل صحيح وتحرزتَ3 في نقلها. فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبتُ منه! فقلت له: أين وجدته؟ قال: هو موجود الآن بين أيدينا وعندنا! وكنا في المسجد في زاوية، فقلت له: أين هو؟ فقال لي: عن يمينك! فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ! فقال لي: هو أصلي، وبإملائه كتبت؛ كان يملي علي من حفظه! فجعلت أتعجب. فسمع الأستاذ حديثنا؛ فالتفت إلينا وقال: فِيمَ أنتما؟ فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: بعيدًا أن تفلحوا! يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي! والله لقد أدركت أقوامًا لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه4 حافظًا ولا يرونه مجتهدًا!.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015