فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس؛ لم يزل على ذلك مستمرًّا أشهرًا، إلى أن أبطأ يومًا عن صلاة العصر إبطاء كاد وقتها يفوت، وقعد الناس ينتظرونه؛ فخرج عليهم فصلى ثم أوسعهم لومًا وتأنيبًا، وقال: ما أرى صلاتكم إلا لنا، وإلا فما منعكم عن أن تقدموا رجلاً منكم فيصلي بكم؟ أليس قد قدم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف1 حين دخل وقت الصلاة وهو غائب؟ أما لكم بهم أسوة وهم الأئمة المتبعون والهداة المهتدون؟ فكان ذلك سببًا لقطعه الإمامة.
وكان يقعد للناس عامة، لا يُحجَب عنه أحد من صغير ولا كبير؛ حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم، فقضى بينهما؛ وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضربًا خفيفًا تأديبًا لهما؛ وقال لهما: أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا؟ فكان هذا أيضًا مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة, لا ينفذها غيره.
ولما ولى أبا القاسم بن بقي المتقدم الذكر، كان فيما اشترط عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا؛ فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين سِتْر من ألواح.
وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين، يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم.
وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم؛ فإذا أثنوا خيرًا قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة؛ فلا يقولن امرؤ منكم إلا حقًّا. وربما تلا في بعض المجالس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] .
ولما خرج إلى الغزوة الثانية سنة 92 -وهي الغزة التي كانت بعد الوقعة الكبرى التي أذل الله فيها الأدفنش وجموعه, وأعز الإسلام وأنصاره- كتب قبل خروجه إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملهم إليه؛ فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند, لا هؤلاء! ويشير إلى العسكر؛ فكان في ذلك شبيهًا بما حُكي