إلى الطول ما هو. في صوته جهارة1، رقيق حواشي اللسان2، حلو الألفاظ، حسن الحديث، طيب المجالسة، أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم لأيامها ومآثرها وجميع أخبارها في الجاهلية والإسلام. صرف عنايته إلى ذلك أيام كونه بإشبيلية واليًا عليها في حياة أبيه. ولقي بها رجالاً من أهل علم اللغة والنحو والقرآن، منهم الأستاذ اللغوي المتقن أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك المعروف عندهم بـ ابن مُلْكون، فأخذ عنهم جميع ذلك وبَرَع في كثير منه.
أخبرني من لقيته من ولده، كأبي زكريا، وأبي عبد الله، وأبي إبراهيم إسحاق، وغيرهم ممن لقيته وشافهته منهم، أنه كان أحسن الناس ألفاظاً بالقرآن، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية. وكان شديد الملوكية، بعيد الهمة، سخيًّا جواداً، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الأموال، هذا مع إيثار للعلم شديد، وتعطش إليه مفرط؛ صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين -الشك مني؛ إما البخاري3 أو مسلم4، وأغلب ظني أنه البخاري-حَفِظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن، هذا مع ذكر جمل من الفقه. وكان له مشاركة في علم الأدب، واتساع في حفظ اللغة، وتبحر في علم النحو حسبما تقدم. ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، فجمع كثيرًا من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، فاستظهر من الكتاب المعروف بالملكي أكثره، مما يتعلق بالعلم خاصة دون العمل. ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها؛ فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي.
أخبرني أبو محمد عبد الملك الشذوني، أحد المتحققين بعلمي الطب وأحكام النجوم، قال: كنت في شبيبتي أستعير كتب هذه الصناعة -يعني: صنعة الأحكام- من رجل كان عندنا بمدينة إشبيلية، اسمه يوسف، يكني: أبا الحجاج، يعرف بـ المراني بتخفيف الراء، كانت عنده منها جملة كبيرة وقعت إلى أبيه في أيام الفتنة بالأندلس؛