ديانته مبذولة، وعلى المكروه والمحبوب في ذاته محمولة؛ فقصدنا إليها، وهجمنا هجوم الردى عليها، في وقت انسدت فيه أبواب السبل، وأعيت أهلها بحول الله وجوه الحِيَل، والدهر قد كشر عن أنيابه العُصْل1، وقام من الوحول والسيول على أثبت رِجْل. فنزلنا بساحة القوم، فساء صباحهم ذلك اليوم؛ فلم نزل نصاولهم2 مصاولة المحتسب المؤتجر، ونطاولهم مطاولة المرتقب لأمر الله المنتظر، ونشن الغارات على جميع الجهات، فترد جيوشنا عليهم خفافًا وتصدر إلينا ثقالًا، فتملأ صدور الأعداء أوجالًا3، وأيدي الأولياء أموالًا. وأمرنا بإقامة سوق سبيهم وأموالهم، على مرأًى ومسمَعٍ من نسائهم ورجالهم؛ فازدادت ريحهم بذلك ركودًا، ونارهم خمودًا.
ولما ضمهم لضيق ولَاجه الحصار، وغشيهم بتفريق أمواجه البوار4، وأحاط بهم البلاء، واستشاط عليهم بغضب الجبار القضاء، ولم يكن لليل بأسائهم سحر يُتأمل، ولا لوِرْد ضرائهم صدر يُؤمل، اختاروا الدنية على المنية، ورضُوا بالاستسلام للعبودية، وإسلام الأهل والذرية، والسلامة من مدارج الكفن، وموالج الجَنن، ولو بجُريعة الذَّقَن. وكان القتل -كما قدمنا- قد أتى على صِيد5 أعيانهم، وصناديد6 فرسانهم، فلم تبق إلا شرذمة7 قليلة، وعُصبة ذليلة، لا تضر حياتهم مُوحِّدًا، ولا تسر نجاتهم مُلحدًا. نقلناهم من يمين المنون، إلى شمال الهُون8، ومن أليم الحصار، إلى لئيم الإسار. وكانوا سألونا الإبقاء عليهم فأجبناهم، بعد أن قدموا من الخضوع صدقة بين يدي نجواهم، ووهبنا أولاهم لأخراهم، وجعلنا العفو عنهم تطريقًا لسواهم، ممن يتقيل صنيعهم إذا نحن غدًا بإذن الله حاصرناهم.
وهذه القلعة التي انتهينا إلى قرارها، واستولينا على أقطارها، أرحب المدن أمدًا للعيون، وأخصبها بلدًا في السنين، لا يريمها9 الخِصب ولا يتخطاها، ولا