يقطع به أيامه. ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم في طول هذه الفتنة إلى المسلمين، ولأملأنها عليهم - يعني الروم- خيلاً ورجالاً لا عهد لهم بالدَّعة1، ولا علم عندهم برخاء العيش؛ إنما هم أحدهم فرس يروضه ويستَفْرِهه2، أو سلاح يستجيده، أو صريخ3 يلبي دعوته ... في أمثال لهذا القول. فيبلغ ذلك ملوك النصارى، فيزداد فَرَقُهم4، ويقوى -مما بأيدي المسلمين، بل مما بأيديهم- يأسهم.
وحين ملك يوسف أمير المسلمين جزيرة الأندلس وأطاعته بأسرها ولم يختلف عليه شيء منها، عد من يومئذ في جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمَّى هو وأصحابه بـ المرابطين. وصار هو وابنه معدودين في أكابر الملوك؛ لأن جزيرة الأندلس هي حاضرة المغرب الأقصى، وأم قراه، ومعدن الفضائل منه. فعامة الفضلاء من أهل كل شأن منسوبون إليها، ومعدودون منها. فهي مطلع شمس العلوم وأقمارها، ومركز الفضائل وقطب مدارها؛ أعدل الأقاليم هواءًَ، وأصفاها جوًّا، وأعذبها ماءً، وأعطرها نبتًا، وأنداها ظلالًا، وأطيبها بُكرًا مستعذَبة وآصالاً: من البسيط
أرض يطير فؤادي من قرارته ... شوقًا لها ولمن فيها من الناسِ
قوم جنيت جَنَى وردٍ بذكرهمُ ... فهل بلُقياهم أجني جنى آسِ؟
فانقطع إلى أمير المسلمين من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم.
أعيان الكُتَّاب في دولة المرابطين
واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار؛ فممن كتب لأمير المسلمين يوسف: كاتب المعتمد على الله أبو بكر المعروف بابن القَصِيرة5، أحد رجال الفصاحة، والحائز قصب السبق في البلاغة؛ كان على طريقة قدماء الكتاب، من إيثار جَزْل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أحدثها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من