رحلنا من ذلك المكان المذكور، وقد استنارت بالقمر ظلمة الدَّيْجُور، وسرنا في مسالك وعرة، وشعوب متشعبة مضجرة، وإهباط وإصعاد، وإغوار وإنجاد، ثمّ اكفهرَّ وجه السماء وتغيّر، ودمدم الرعد وزمجر، وأومض البرق من الغرب والشرق، وهبّت الرياح نشراً، وأقبلت السحب زمراً، فرجفت القلوب، وأحسَّت بملاقاة الكروب، واستمرّ ذلك التهديد، وتواتر من الرعد الوعيد، واختلفت آراء الريح، وجاد الغمام بماءه جود الشحيح، ثم أقشعَت السماء، وارتفعت تلك الأنواء، وتفرّق جمع السحاب، وتمزّق منه الجلباب، وأسفر وجه القمر من لثام الغمام، وأزهرت الزهر كالزهر تفتح عنه الكمام، فزالت تلك الكروب، واطمأنت بحمد الله القلوب، ولم نزل نسير إلى أن أظلّ التنوير، وَجَسُرَ الصبح المنير:
ولاحت الشمس تحكي عند مطلعِهَا ... مرآة تبر بدت في كف مرتعش
فانحدرنا من تلك العقبة، وسرنا في أرض مستوية مصطحبة بين أشجارٍ كثيرة الظلال، وأنهار تجري بماءٍ زلال، ثم تلقّانا بَرٌ واسع الفجاج والشعاب، كثير العجاج والتراب، طويل المساحة ممتد الساحة، لا يبلغ الطرف منتهاه، ويكلّ الطرف عن بلوغ مداه، فلم نزل نسير به من بكره، إلى أن أبدى النهار حرّه وأضطرم جمره، فقيلنا حينئذٍ بخان يغره، ثم رحلنا منه متوجهين إلى تلقاء بلدة