وعلى هذا فالبر بالوالدين الكافرين وصحبتهم في الدنيا معروفاً وصلة الرحم الكافرة والإحسان إليها لا إشكال فيه شرعاً ألبته إلا أنه ينبغي أن يُعلم بأن مشروعية ما قررناه من التعامل بالإحسان والبر بالوالدين الكافرين وصحبتهما بالمعروف وصلة الرحم الكافرة والزواج من الكتابية المُحصنة العفيفة يكون دون موالاتهم على الوجه المحرم وطاعتهم فيما يريدون من الشرك ومعصية الله تعالى أو شهودهم وهم على منكراتهم أو تعظيمهم على النحو المنهي عنه ويجب أن تكون الصلة والإحسان إليهم مع البراءة منهم, وقد أوجب الشرع البراء من المشركين والولاء لله سبحانه بأن يتبرأ الإنسان من كل ما تبرأ الله منه كما قال سبحانه وتعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه المشرك (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) وقوله سبحانه (َياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء) , وعن أبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول (إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) متفق عليه واللفظ للبخاري, وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يصل ذوي رحمه وأقاربه من غير أن يُؤثرهم على من هو أفضل منهم, وقال الله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) , وقد قال الله سبحانه فيما يختص بالأقارب الكفار (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.) وينبغي التنبه إلى أن الممنوع في هذه الآية باتفاق أهل العلم هو المحبة الدينية, وأما المحبة الطبيعية لغير الدين فقد رخص فيها بعض أهل العلم مع وجوب بغض دينهم , والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع عموم الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم خروجاً من خلاف أهل العلم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يُحسن إليهم, وليفعل المسلم ما هو أصلح لقلبه والله تعالى أعلم.
ثم إنه لا تنافي بين البراء من الكفار لأجل كفرهم ومواصلتهم والبر بهم والإحسان إليهم لا سيما الوالدين والأقارب والأزواج، وكيف يكون في الأمر تناقضٌ وقد جاء من عند الله وفي كتابه، وهو القائل) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (أي أن كتابه لا تناقض فيه بحال , فالولاء للإسلام أعظم منزلة من منزلة البر وحسن الصحبة للكفار ولذلك يُضحي المسلم بذوي القرابة والنسب من الكفار عندما تتعارض مع مطالب العقيدة الإسلامية , وعلى هذا فلا موالاة للكفار أو الوالدين من غير المسلمين بالبر والمعروف لأن الموالاة للكفار مطلقاً إنما تكون بمساواتهم مع المؤمنين أو تنزيلهم منزلة أقرب من منزلة أهل الإسلام أو التنازل عن شيء من أحكام الإسلام استجلاباً لمودتهم وحصول رضاهم.
وبهذا يتبين أن الموالاة والنصرة على الدين والمحبة الدينية تختلف عن البر والإحسان إلى الكافر القريب أو الوالد.
ثالثاً: وأما كيف يمكن الجمع والتوفيق بين آيات النهي عن مودة الكفار وعن موالاتهم وبين المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى بين الزوجين وهي قوله تعالى في سورة الروم {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (سورة الروم 21).وفي النهي عن مودّة الكفار وموالاتهم يقول الله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوآدُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم
} الآية (سورة المجادلة 22).فالله تعالى نهى عن مودة من حاد الله ورسوله وعن مودة الكافرين سواء من المشركين أو من أهل الكتاب, علماً بأن الزواج من الكتابية فيه مودة ويترتب على هذه المودة