حقائق تاريخية قيمة عن العصرين المكي والمدني، وأن يصنعوا من نسيج الآيات ذات الصيغة التاريخية صورة عن السيرة هي في الحقيقة من أدق ما كتب عنها إلى الآن، ويكفي أن ننظر- على سبيل المثال- في كتاب دروزة (سيرة الرسول: صور مقتبسة من القرآن الكريم) ، وصالح أحمد العلي (محاضرات في تاريخ العرب) إلى حد ما، وسيد قطب في تفسيره لسور (الأنفال) و (آل عمران) و (الأحزاب) و (التوبة) و (محمد) و (الفتح) وغيرها في كتابه (في ظلال القرآن) لتبين ما يمكن أن يقدمه كتاب الله عن سيرة رسوله الكريم من معلومات ذات قيمة أكيدة.
إن القرآن الكريم كتاب عقيدة ومنهج حركة، وإذا حدث وأن طرح جانبا من الوقائع التاريخية؛ فإنّ هدفه ليس تكوين لوحة متناسقة شاملة لمجريات الأحداث في عصر بكامله. وإنما ملامسة بعض هذه الأحداث والتعقيب عليها لكي يركب منها موقفا يا بني به الإنسان المسلم والجماعة المسلمة..
أي: أنه يعتمد أسلوب التعليم والتربية بالحدث، وهو واحد من أشد الأساليب حيويّة وعطاء؛ لأنه يحقق ما يسمى بمبدأ (الاقتران الشرطي) ويجعل النمو الحركي للجماعة الإسلامية يستمد مقوماته من الواقع المعيش لا من النظريات المعلقة في الفراغ والجدل اللاهوتي العقيم.
ثم إن (وات) ما يلبث أن يقع في تناقضين آخرين، فهو من جهة يعترف بأن القرآن يطلعنا على الجانب الفكري لمجموعة من التغيّرات التي حدثت في مكة وفي ضواحيها، وهي تغيرات تاريخيّة، بل إنها قمة التغيّرات التاريخية، لأنها بمثابة الحصيلة النهائية للحركة التاريخية التي ترفدها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبما أن القرآن الكريم، كما أشرنا قبل قليل، ليس بحثا في التاريخ، فهو يكتفي بطرح التغيّرات الأعمق والأشمل، ويترك جزئيّاتها المتشكّلة في تيّارات العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مكتفيا بالإشارة إليها بين الحين والحين.