وثمّة تأكيد ثالث لهذا المنظور الذي لا يغافل الدافع المادي، ولكنه يضعه في مكانه تماما: «إن الأسباب المادية لا تنفي الأسباب الدينية، بل الاثنان متكاملان، والقول الحق هو أن الأفكار الدينية يجب أن تكون ضرورية لتجعل الناس يدركون الوضع العام الذي يعيشون فيه، والأهداف التي يسعون وراءها، وللدين في نظر التفكير الديني مظاهره السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هذا هو الحال في الشرق الأدنى، وهو مع ذلك ظاهرة غريبة في نظر الغربيّين، ولكن يجب ألّا يعمينا ذلك عن إدراك أن الجانب الدينيّ في الحركة التي تزعّمها محمد كان دائما صحيحا وثيق الصلة بالجوانب الآخرى» (?) .
وانطلاقا من هذه القدرة على (التحرّر) من شدّ التقليد الغربيّ بصدد الدوافع الاقتصادية، يطرح (وات) في مقدمة كتابه هذا السؤال: «هل يعني هذا أن ظهور ديانة جديدة في الحجاز وانتشار العرب في فارس وسورية وإفريقية الشمالية مرتبطان بتغيّر اقتصادي خطير؟» ، وما يلبث أن يجيب عليه بقوله «هناك من يجيب بالإشارة إلى قحط صحراء الجزيرة العربية، وأن الجوع هو الذي دفع العرب على طرق الفتح، لندع جانبا مؤقتا، المسألة العامة عن التغيّر الاقتصادي، ويكفي أن نشير إلى أنه ليس هناك برهان وثيق على سوء الأحوال المناخية في الصحراء (?) . فلقد كانت الحياة فيها مقبولة.
ونسمع عن صحابة محمد أنهم- أثناء الفتوحات خارج الجزيرة- كانوا يعودون أدراجهم إلى حياة الصحراء التي يحبّونها، ونشعر من خلال ذلك أنّ البدو لم يكونوا أسوأ حالا من الماضي، بل كانوا أفضل حالا بسبب ما يستفيدونه من ازدهار مكة المستمر.. ولقد وجدت صناعات صغيرة في