أثبته عندنا وأدني عصوره منا وأقر به فهماً إلينا- ما لم يقره ذلك النفر أنفسهم- وهم ينشرونه بمقدمات ضافية فيها من دعاوى الاكتشاف والفتح وبعد المدى ما لم يحلم به حالم أو يتخيله متخيل أو يبلغه الظن، ثم ينظرون إلى مفكري العرب نظرهم إلى تلاميذ الكتاتيب. مع أن مفكري العرب يعترفون لمعظم المستشرقين بفضل الريادة في الفهرسة والتحقيق والترجمة وتأصيل المنهج العلمي. ولكنهم يرون أن الباحث العربي قد يبزهم فيها عندما ينظر في تراثه وهو مزود بجميع مصادر الثقافة الإنسانية. وأنه من العبث أن نضرب صفحاً عن بوادر النهضة العلمية والأدبية والفنية العربية الحديثة التي بدأت تتضوأ في الأفق متنكبين طريقها إلى تقليد المستشرقين، الذين لا بد أن ينتهوا يوماً من تحقيق تراثنا وترجمته. وقد أوشكوا على ترجمة روائعه المعاصرة بالفرنسية والإنجليزية والاسبانية والألمانية والروسية إلخ، والتصنيف فيه، ولا يرقب منهم أن يصنفوا في علومهم وآدابهم وفنونهم بلغتنا ليقلدهم المقلدون في التصنيف.
ولقد بلغ المستشرقون، من تعليم لغاتنا وحفظ تراثنا والكشف عن آثارنا، واحياها بالنشر والترجمة والتصنيف، ذلك المبلغ، المنهج وميزات ووسائل لم تتوفر جميعها لنا من قبل، أشهرها:
1 - المنهج العلمي:
لم يبتدعه المستشرقون ابتداعاً، بل هو منهج أشاعه في الغرب أعلام المفكرين من أمثال: مونتن، وسنت افرموند، ومونتسكيو. ولئن كان مذهب التشكيك قد عرف عن الغزالي فإنه لم يؤخذ به إلا بفضل: ديكارت، ولاهارب، وبرونتيير، وهو قائم على الإحاطة والتنخل والموازنة والترتيب والاستنباط لبلوغ الحقيقة، وكل ما لا يثبت عليه من علم وأدب وفن مردود. وقد التزمه علماء الغرب في كل مناهجهم التزاماً شديداً، وطبقه المستشرقون على علومنا وآدابنا وفنوننا تطبيقاً صحيحاً، فعلهم بما في اللغات الأخرى سامية كانت أو آرية. وقد نحا نحوه بعض أسلافنا: كابن سلام، والعسكري، وابن قتيبة، والجرجاني. ودعا إليه الدكتور حسين هيكل بقوله: "وليس ريب في أن الشرق اليوم بحاجة أشد الحاجة إلى النهل من ورد الغرب في التفكير في الأدب والفن، فقد قطع ما بين حاضر الشرق الإسلامي وماضيه قرون