فإن قيل: هذا الحديثُ لا حُجَّةَ فيه فإنّه مضطربٌ؛ لأنّه رُوِيَ أنّه نام في المسجد فتوسَّدَ رداءه، وروى أبو داود (?) والنّسائي (?)؛ أنّه تَوَسَّدَ خَمِيصَةً قِيمَتُهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، فجاء رجلٌ فَاخْتَلَسَهَا، فَأُخذَ الرَّجُلُ فَأُتِىَ بهِ رسولُ الله - صلّى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَ بِهِ فَقطع، قال صفوانُ: فقلت أتقطَعُه من أجل ثلاثين درهمًا، أنا أبِيعُهُ به، فقال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "فَهَلَا قَبلَ أَنْ تَأتِيَنِي بِهِ" وروى النّسائي (?)؛ أنّ ذلك كان بمكّة، فقال: إنّه طاف بالبيتِ ثمّ أخذ رداءه فتوسّده ونام الحديث.
قلنا: الحديثُ صحيحٌ، وهذا الاضطرابُ الّذي فيه. لا يُسقِطُ القَطْعَ الحُجَّةَ فيه؛ لأنّه لم يَرِد الاضطرابُ في موضِعِ الدّليل، وهو أنّ الملكَ لا يُسقِطُ القَطْعَ.
المعقدُ السّادسُ:
كلّ مالٍ يباعُ ويُبتاعُ وتمتدُّ إليه الأطماعُ، تتعلَّقُ به السَّرِقَةُ. وأسقَطَ أبو حنيفةَ القطعَ في مسألتين من ذلك:
احداهُما: قال: لا قطعَ فيما كان أصلُه على الإباحةِ، لشُبهةِ الشَّركَةِ المتقدِّمة فيه. وهذا ضعيفٌ؛ فإن ما تقدّم من الشَّرِكة لا ينتصِبُ بشُبهَةٍ في حدِّ السّرقة. أصلُه: خُلوصُ المِلكِ في الجارية المشترَكَةِ لأحد الشّركاء، لا يُسقِطُ- باتِّفاق- حدَّ الزِّنا عمَّن وَطِئَها ممّن خرَجَ عن حِصَّتِهِ فيها.
الثّانية: قال أبو حنيفةَ (?): ما يُسَارِعُ إليه الفسادُ من المأكولاتِ ولم يَصلُح للإدِّخارِ لا قطعَ في سَرِقَتِهِ؛ لأنّه معرَّضٌ للتّلَف بالعَفَنِ والنَّتَنِ، وكلُّ مالٍ معرَّضٍ للتَّلَفِ لا قطعَ على من سرَقَهُ، كالمال المُلقَى بمضيَعَةٍ.
قلنا: هذا لا يُشبِهُ فهمَ أبي حنيفة؛ لأنّه قال: المالُ المُلقَى بمَضيَعَةٍ لا يتعلَّقُ به طمَعٌ ولا يجوزُ فيه بَيْعٌ، فصار في حَيِّزِ المعدوم، والمالُ المُلقَى بمَضيَعَةٍ قُصِدَ به التّعريضُ للتَّلَفِ، والمالُ الّذي يصلُح للبقاء والادِّخار إذا دخلت فيه صَنعَةٌ يُسرِعُ معه الفسادُ إليها، فلم يُقْصَد فيه الفسادُ والتّعريضُ للتَّلَفِ، وانّما قُصِدَ فيه الاستصلاحُ لِلَّذَّةٍ