المستشرقين، وتعرَّف دخائلهم، وخَبَر أهواءهم، واستفاد في ديار الإسلام من شيوخ العصر الوسطيّة في الفهم، وإقامة التوازن المطلوب بين الأمنيات والإمكانات في التعامل مع الأحداث والمواقف، مما مكَّنه من مُغالبة الأقدار، وتذليل العَصِيَّ وتقريب القَصِيَّ.

كان صاحبُنا يقضي جُلَّ أوقاته في منفاه الاضطراريّ برُومِيَّة بالدِّيار الإيطاليّة، يختلسُ أوقاتَ الفراغ ليقضي بعض الوقت في سياحات ممتعة مع روائع التراث الإِسلامي المحفوظة بمكتبة الأمير ليون كايتاني وخزانة الفاتيكان، يستعينُ بحلاوة الفقه وأصوله والحديث ورجاله، على السِّياسة ومرارتها والسِّياسيِّين ونفاقهم، تلك الأيام الْمُمِضَّة الّتي بلغت فيها الخصومة بين أبناء وطنه أقصاها، فتَنَكَّرَ بعضُهم لبعضٍ، وأضمَر بعضُهم لبعض من الحقد والكراهية والعَداوة ما أدَّى إلى الاقتتال الدّاخلي، واستباحة الأعراض والأموال، وجرت الدماء أنهارا، دون أن تكون في هذا التعبير مبالغة أو غُلُوّ، في مَشهْدٍ مُرْعِبٍ تنخلعُ له القلوب، وتمِيدُ له الجبال فَرَقا.

وفي وسط هذه الأهوال القاسية الفظيعة، كانت نفسُ صاحبنا تجدُ شيئًا كثيرا من الألم والحسرة، ولكن الضّعف لم يعرف إليه طريقا، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ الألم زاده عنادًا في محاولة إيجاد الحلول والبدائل الّتي تؤدِّي إلى شاطئ الأمان، أو إلى تخفيف المعاناة على أقلِّ تقدير، فسَعى بكلّ ما أوتي من قوة -مع المخلصين من أبناء الوطن- إلى جمع الفُرَقاء السِّياسيِّين الممثِّلين للشَّعب الجزائري في روما في: 12/ 8/ 1415هـ الموافق 13/ 1/ 1995 م، بعد أن تعذَّر التّلاقي في الوطن، فتمخَّض الاجتماع عن وثيقة العقد الوطني، هذه الوثيقة التي شخّصت الدّاء ووَصَفت الدُّواء بإجماع من أغلب التيارات

طور بواسطة نورين ميديا © 2015