لم يخطر على بال صاحبنا آنذاك أنّ القَدَرَ يُخبِّئ له المصير نفسه، فقد امتحنه الله كما امتحن به شيخه ابن العربي، وابتلاه بالهجرة الاضطرارية، فتجَلَّدَ على مَضَضِ المحنة، وائتسى بابن العربي ورَضِيَ لنفسه ما رَضِيَه، وإليك - أخي القارئ- قبسا من سيرة هذه الهجرة وأسبابها، لعلها تشفع عندك إذا ما وقع بصرك على ما تُنكرُه أو تُقَبِّحُه من عمله في "المسالك".

بعدَ عودة صاحبنا من رحلة طلب العلم في المشرق العربي، استقرَّ به المقام في جامعة الجزائر، مُدَرِّسَا للكلام والأصول، مجتهدًا - قَدْرَ الاستطاعة- في تشكيل خمائر النهوض العرفي المرتكز على قيم الوحي، واكتشاف الطاقات العلمية -وهي كثيرة والحمد لله- ومحاولة تذليل كلّ العَقَبات الّتي تُعطّل إمكاناتها، وتحاصر مَلَكاتها، لكن الإرهاب العلماني بتحالُفٍ مع قوى الشَّرِّ والبَغْي والاستئثار بالثروة والسُّلطة، غاظهم جو الحرية والانفتاح الّذي انتهجه النظام آنذاك، فقاموا بانقلاب على الشرعية، وصادروا اختيار الشعب، وتحدّوا عقيدة الناس، بأدوات القمع والقهر والاستبداد، وأدخلوا البلد في نفق مظلم أشد ما يكون الظلام ظلمة وسوادا، متذزِّعين بفلسفاتٍ ومُسَوِّغَاتِ علمانية تُعادي كلّ ما هو أصيل في هذه الأمة.

وفي ظِلَّ مناخ التَّسَلُّط والظّلم والارتهان، والتّهديد والوعيد، اضطَرَّ صاحبنا إلى الهجرة اضطرارًا، فترك الجامعة والأهل والأحباب، ورَضِيَ بما سبق به القضاء المحتوم والأمر المختوم، فلا مُغَيِّرَ لنافذ الحكم، ولا مُبَدَّلَ لسابق العِلْم، وصبرَ على ما نزل به صبرا جميلا، وظلَّ يتنقَّلُ بين عواصم الفرنجة وشبه جزيرة العرب، سنين عددا، وتعَرَّفَ في ديار الدَّعوة على "الآخر" بكلِّ إنجازاته الحضاريّة ومنظومته العرفية بأبعادها الفلسفيّة، وخالط كثيرا من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015