قال هذا فلم أفهم من كلمته شيئاً إلا أن لقب " اللص" يكون من الشرف أحيانا بحيث يسمو كثيراً على الرجل الملحد ...
"والثاني" رجل نتفلسف انقلبت عقيدته إلى زيغ فله رأيان في أمور الحياة: واحد ينزع فيه طبيعته فيستمتع ما وجد متاعاً في حرام أو حلال وفي معروف أو منكر. والآخر يرجع به إلى ضميره الإنساني وما هو الأشبه بعلمه وعقله وفلسفته فيألم ويتململ إذ يرى أنه لا يزن من لذاته لا بمقادير الخير ولا بمقادير الشر وأنه يبيح لنفسه ويحرم على غيره، فإنما الرأي والحق والعدل أن لا ينطلق في كل إنسان تاريخه الوحشي كما يفعل هو ليقوم النظام على أصوله وتتحقق الإنسانية في أهلها، ولو فعل الناس ذلك فوسعتهم الفلسفة لما وسعتهم الطبيعة بل هي تسرع حينئذ فتطلق لكل حيوان مع أكيلته التي يغتذي بها آكله الذي يتغذى به.
لم أفهم من فلسفة الرجل أنه فيلسوف، بل عرفت من علمه أن الرجل من الناس قد يكون سافلاً حتى من الجهة العالية فيه، وقد يكون فاسداً حتى من بعض جهاته الصالحة ...
"والثالث" رجل يزعم عند نفسه أنه مصلح ويتولى أمور الناس فيداورها ويلتمس لكل شيء مأتى يتسبب منه إلى إصلاح فيهم حتى إذا وثق الناس به واستكانوا إليه وصاروا في حال الغرة وفي قياد الأمن، صدعهم في أديانهم وأخلاقهم وركبهم بمزاعمه وخرافاته وبث وأوهامه في مذاهب أقدارهم وتصاريف أمورهم وظن الدين كلمة توضع في موضعها كلمة غيرها وحسب اليوم من أيامه في عمل الدهر كاليوم من أيام الله في خلق السموات فهو يطرد الأزمنة ويمحو العادات ويغير الطباع ويسن لفروع الشجرة سنة جذورها فلا يذهب الفرع طالعاً بل يغور نازلاً، ثم يريد أن يقيم على طريق التاريخ مجازة أو قنطرة ليمشي بالناس فوق التاريخ فيقطع بهم ألف سنة في ألف يوم، وكأنه زاد في الطبيعة ناموس نهيه وأمره ...
أنا لا أقول قي مثل هذا إنه مصلح، بل أقول يا عجباً لسخرية الأقدار من القوة، إلا النسر في الجو ليبحث أين تكون الجيفة ...
"الرابع" ذلك الذي جعلته الكتب عالماً وقسمت له ما شاء ولكن الله تعالى لم يقسم له شيئاً من كرم الضريبة وشرف العرق ولا ألقى معاني الذهب في سلسلة آبائه فهو رثة لا يجيء في معاني الناس بطباعه وأخلاقه إلا كالثوب الخلق من فتوق ورقع، ويغطي عليه العلم كما تغطي القشرة النضرة على الثمرة المزة، فإذا كتب للناس ارتطم في طباعه ونزع مأخذه وتجاذب داخل نفسه وخارجها فيذهب ينكر ويعترض ويسفه ما عليه الناس من دين وخلق وينزو بهم في نوازيه ودواهيه، ويرد كل ما في الطبيعة من الجمال وكل ما في النفس من الحق إلى تأويل مادي بحت، كأن الزهرة الخارجة من الطين هي طين مثله. ويسقط عنده كل ما عمل الشعاع والماء في الذرة الأزلية التي انبثقت منها النبتة فخرجت توحي عن السماء وحي النور واللون.
أنا لا أفهم أن مثل هذا عالم ولكنه في الناس كبعض النبات في النبات يرزق من النمو قوة يفسد بها ما حوله، فإذا هي ظهرت فيه لم تنبه على قيمته بأكثر مما تنبه إلى وجوب اقتلاعه واستئصاله ...
لا ثقة لي بمختلق لا دين له، فإن الخلق يصله بحظ نفسه أكثر مما يصله بواجبات الناس، ولا فيلسوف ملحد، لأن الفلسفة تمزجه بالمادة أكثر مما تمزجه بالإنسانية، ولا بمصلح ينسلخ من الدين، لأن إصلاحه صور من غروره، ولا بعالم جاحد، لأن علمه كهندسة الشوكة كلها من أجل آخرها ... أولئك لا يدرون أنهم من هذا العالم في حدود أغراضهم الصغيرة الفانية إذا كان كل منهم يتناول الكون من حيث يحب هو لا من حيث يحب عليه، ثم يفسر الأشياء في جزء منها لا في مجموعها، ويعتبر الزمن عمراً كعمر الفرد وهو تاريخ لا يموت، وينظر إلى الغاية من الوجود كأنها داخلة في الحد مع أنها لو حدت لبطلت أن تكون غاية.
كل منهم صحيح في ذاته لكنه فاسد بموضعه من أغراضه أو من أغراضنا، وما أشبههم بالأشجار في المقابر لا تجد لها في المقبرة ما تجد لها في الحديقة، كأنها لما قامت في موضع الموت قامت حية ولكن ماتت روح الحديقة فيها.