لا تسمو حياة الفرد إلا إذا كان جزءاً من كل، ولا يجتمع الكل إلا إذا كان تاماً هو كل به، السبيل أن يدفع الفرد أبداً إلى خارج حدوده الذاتية الصغيرة. وفكرة الكل هذه لا يصورها ولا يستوفي معانيها إلا الدين الصحيح إذ هو خروج بالفرد من شهواته التي تفصله من غيره إلى واجباته التي تصله بغيره، وانتزاع له من ذاتيته إلى إنسانيته ودفع بالإنسانية نفسها إلى الكل الذي هو أسمى. فكأن الإيمان في حقيقته إن هو إلا دربة لهذا الإنسان على الدخول في اللانهاية فهو من أجل ذلك يقضي على الفرد أن يتسع ويمتد في إنسانيته لا في شخصيته فيتخلق بالأخلاق التي تعم دون أن تخص، وفي صورة صغيرة من جعل المحدود في ذاته أعظم من ذاته ودفع ما ينتهي في سبيل ما لا ينتهي.
فإذا عمل الفرد على أن يقفل حدوده ويستغلق بها ويمتنع من ورائها صار كالقلعة المحصنة لا تصلح إلا حرباً لما حولها ودفاعا عما فيها فلن يضع هو أمره إلا على هذا المعنى، ومن ثم فلن يكون له ممن يصادمونه إلا حكم واحد وهو تخريبه وهدمه واقتحامه، فإذا كانت الحياة غير باقية على فرد من الناس فمن الحمق أن تكون هذه هي صورة الإنسانية فيها، وإذا كان ذلك حمقاً فالحق ولا جرم بعض المعاني التي يقوم الإلحاد عليها.
ليس في الأرض إنسان لا أجداد له ثم ليس على الأرض إنسان في نفسه بل إنسانية فقط، إنسانية متصلة مفرغة إفراغاً ليس للفرد بينهما موضع لذاته بل موضعه لاتصاله بسائرها كمنزلة الخلية الواحدة بين الملايين من الخلايا المتلازة في جسم واحد قائم من جمعيها صالح للوجود بصلاحها وفسادها معاً.
أما إنها لعجيبة أن تلقي بسؤالين متناقضين لا يلتئمان ثم لا تجد ولن تجد عليهما إلا جواباً واحداً لا يختلف، سل الحكمة، لم صلح هذا؟ فالجواب ليكون شيئا ضروريا في الوجود. وسلها لما فسد ذالك؟ فالجواب كذلك ليكون شيئا ضروريا في الوجود. هي الحلقة المفرغة، لما غاب طرفاها صار كل موضع فيها طرفا وعلت كلها ونزلت كلها.
فليس إلا النوع لا الفرد، والكل لا الجزء، والإنسانية لا الإنسان وإنما يقع كل شيء في الحياة، بل في الوجود كله، تدريجيا لتحقيق هذه الوحدة كيلا ينفصم أحد منهما، فهي أبدا ذاهبة بالجسم والعقل والمعرفة والعمر من جزء إلى جزء من الأصغر إلى الصغير، إلى الكبير إلى الأكبر، إلى الأوسع إلى الأسمى، لأن تلك هي علامتها في حكتها وتسحبها، وهي طريقة برهانها بالنهاية على أنها لا نهاية.
بيد أن خطأ الغريزة في الإنسان يظهر في اعتبار الفرد نفسه كلا تاما وشيئا متميزا فلا يريد لنفسه إلا أمرا تاما ووجودا يتميز فيه، وبذلك يقتحم سواه ويستبيح وجوده، فبقع النزاع والعدوان. وكأنه يضيق بمقدار ما لا يستطيع أن يتسع، لا، دفعه لكل ما حوله مردود عليه بدفع مثله مما حوله، فتتبدل صورة الإنسانية في شكل دخله الغلط على كل جهاته، وههنا موضع الدين الصحيح فما هو إلا الناموس القائم من كل إنسان على الواقع في ذاته والواقع في غيره ليصل بين الواقعين المختلفين بنظام مختلف متحد يكون له في النفس ما يكون لنظام المد والجزر.
وبهذا كان واجبا حتما أن تكون العقوبة جزءا من نعيم الدين، وأن يكون القيد شقا من حرية العقيدة، وإلا بطلت في الإيمان قوتا الجذب والدفع معا ببطلان إحداهما، لأن مدا بلا جزر هو أفحش الغرق من ناحية وجزرا بلا مد هو أفحش الغرق من الناحية الأخرى.
تعجبني كلمة في الإنجيل لا أعرف أحدا أحسن تأويلها وبلغ حقيقتها. قال "يجب أن تولدوا ثانية" ووضعها في هذا المقال هو تفسيرها، فإن الفرد يولد من الفرد ولكنه لا يصلح على ذلك، بل يجب أن يولد في صفاته وأخلاقه من المجموع الإنساني لتقع الملاءمة. ثم إنه من أبويه يخرج من الحيوانية بغرائزها ولن يفلح بها إنسانا فيجب أن يولد مرة أخرى من جنسه الاجتماعي بغرائز مكتسبة، ثم إنه يولد مهيأ للإقرار بنفسه وحدها فيجب أن يولد الثانية مهيأة لإنكارها وحدها.
على هذه الأرض. إما للإقرار بالنفس وإيثارها والاعتداد بها، ومع كل ذلك الحيوانية والشيطان، وإما إنكارها والإيثار عليها والمهاونة بها، ومع كل هذه الإنسانية والله.