والناحية الأخرى التي ينظر منها الطفل لأمه الدميمة الشوهاء ناحية الصفات الإلهية، فإن الحب الصحيح الذي يمكن أن يسمى حبا لا يكون فيما ترى من لون وشكل وتركيب وتناسق وغيرها مما يظهر البشرية على أتمها وأحسنها في الشخص المحبوب كما يظن الناس خطأ، بل هو في عكس ذلك أي فيما يخفي البشرية بمحاسنها وعيوبها جميعاً ويظهر في أمكنتها خصائص الروح المحبوبة وحدها فمن ثم يبدو لك شخص المحبوب على أي أشكاله وهيئاته كأنه تمثال سماوي وضع لروحك خاصة فهو مجبول من مادة واحدة هي مادة الفتنة، ولو كان في أعين الناس كافة تمثال الأرض السفلى يصور كل ما تشتت فيها من القبح.
فإذا لم تظهر لك خصائص روح المرأة ظهوراً يستفيض على وجهها وجسمها ويجعل كل شيء فيها ذا معنى منه وكل معنى منه ذا معنى فيك، فما أنت من حبها في شيء ولو ذهبت من جمالها بعقول الناس ولا هي عندك من الجمال في شيء ولو كانت في النساء كليلة البدر في الليالي، ومن أجل ذلك لا يخلو الحب من بعض معاني الوحي، ولا تخلو الحبيبة من بعض المادة الملائكية في النفس التي تعشقها، ولا ملك الوحي إلا قوة المزج السماوي في نفوس الأنبياء، وهل روح الحبيبة إلا على قدر من مثل هذه القوة في نفس محبها؟ ولعل هذا يفسر لك سراً من أسرار الاحتراق في بعض الأرواح العاشقة التي تيمها الحب فإن تلك القوة المزجية متى أفرطت على نفس رقيقة حساسة أذابتها واشتعلت فيها فأكلتها أكل النار للهشيم وتركتها تحترق أسرع ما تحترق لتنطفئ سرع ما تنطفئ قال "الشيخ علي": تلك هي الحقيقة يا بني فلن يأتي لكائن من كان أن يقسم النساء إلى جميلات وقبيحات إلا إذا طوى في ذلك معنى القسمة إلى شهوات جميلة وشهوات قبيحة، ومتى انتهينا إلى هذا فقد خرجنا إلى المخاطبة بلغة لا هي من لغة البهائم ولا هي من لغة الإنسانية.
أفرأيت قط ألفاظ الجمال والقبح تشيع في أمة من الأمم وتعلو بالأعين عن النساء وتنزل وتمتد بها وتتقبض إلا أن تكون أمة ضعيفة القوة قد اختلت أجسامها، أو ضعيفة الدين قد اختلت أرواحها.
انكشف القمر ذات ليلة لرجل اسمه "من عباد الله المقربين" فإذا البدر أسود كالحبر وإذا هو مكتوب في وسطه بالنور "أنا وحدي"، فالقمر نفسه لم يمنعه كل ضياء الشمس عليه أن يسود في عين الرجل الذي ينظر لروحه فما الذي يمنع من ينظر لروحه وخصائصها أن تصير المرأة القبيحة في عينه كالقمر الأزهر؟ في البدر ظهرت كلمة الألوهية "أنا وحدي".
وفي وجه الحسناء تقرأ كلمة الألوهية "أنا وحدي".
فهل يمكن أن تقع الدميمة من الحسناء أقبح ويقع ظلام القمر من نوره فلا تكون في وجهها هي أيضاً كلمة الألوهية "أنا وحدي"؟ لم يبق في البدر مع الحكمة العليا شيء يسمى الجمال!.
ولا المرأة الحسناء يكون فيها شيء أجمل من القمر، فهي مثله ليس فيها مع تلك الحطمة شيء اسمه الجمال.
أفيمكن أن يكون من الحكمة نفسها في وجه القبيحة شيء اسمه القبح؟.
القمر طالع مشرق كما كان.
والجميلة الحسناء لا تزال فاتنة.
والدميمة ظاهرة كما هي.
لم ينقص الكون من ثلاثتها شيئاً.
ولكن أين عين الرجل الكامل؟.
"قال صاحب المساكين": عرفت فيمن عرفت من أصناف الناس أربعة تجري أمورهم في نفسي على غير مجاريها في أنفسهم، وأرى من طبيعتهم موضع الغفلة والحمق فيما يرونه أو يحسبونه موضع السداد والحكمة: "فالأول" رجل ملحد أديب معني بجمع الكتب يتعلق بكل نفيس منها، وهو يزعم أنه تأمل الأديان فلم يجد طائلاً في شيء وأن له في كل دين ظنة على ريبة، ونقداً على مسألة، وثانية على أوله وأنه تبدل الدين بالخلق فما خسر شيئاً وربح الحقيقة، ثم يحذو بعد على هذا الحذو كما يفعل الملحدون في صفة أنفسهم وهي دائماً لا يأخذون من الكلام إلا بملء اليدين إذ من العجيب أن لا تقع لهم الكلمة الصحيحة المفردة.
هذا الذي خرج من الأديان ومن نهيها وأمرها إلى الأخلاق وعهدتها وأدبها "قال لي ذات يوم وقد خضنا في أمر الكتب: إني لأمقت السرقة والغصب والخديعة ولا أبيع منها شيئاً ولا أمرها لأحد! غير أني إذا وجدت كتاباً نفيساً وعجزت عنه أو ضاقت به ذات يدي لأمكنتني فرصة من الغفلات لم أتورع أن أسرقه ... ولو غصبت ولو خدعت.