وقال الشيخ علي: ثم يبرأ المجنون ويثوب غليه عقله فيعرف أنه كان مجنونا، ويبغض المحب أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونا، أفلا يكفي هذا ويحك في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواها، وأن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس، ولا يجوز أن نأخذ بواحد منه إلا إذا أخذنا بالآخر وأقررناه في باب الصواب والعقل، إذ كلاهما حاصل من حالة متى هي تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها ووصفها غير الأخرى! ويلمه وصفا من العاشق لو كان من صاحبه رأي وويله رأيا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل!.
قال "الشيخ علي": سئل الحلاج وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى.... فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب، وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبا من النار، وتركته على عوده ممدودا تتساقط نفسه كما ينشر الثوب الذي بلي وانسحق وهو يتمزق من كل نواحيه على هذا البلاء كله، لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل ولا فسد موضعها في نفسه، ولا رأى ما يكرهه الناس من الألم مكروها في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبا فيميل إليه، ولا تسحب قلبه حركة واحدة السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي أو أغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلا غرا جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه فخذني إليك طفلا عاقلا جعله العقل لا يملك مع أحد ولا صياحه.
واذكر الطفل يا بني فرب معضلة من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها وهي محلولة من أولها، وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يعلموننا ويتعلمون منا، غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح ويأخذون عنا فيفسدون. لرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلا في وجه سواه، أو يحن إلى غير طلعتها أو يسكن إلى غير صدرها، حتى كأن الله لم يخلق وجه حبيب لقبلات محبه إلا وجهها هي لقبلاته؟ إنه في ذلك ينظر من ناحيتين: الأولى ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميا منعكسا أشرق صفاؤه فيما حوله فلا يرى إلا خيرا، ولبست المرئي صفة الرائي فلا ينظر جمالا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس كما يصل الشعاع الذي يلقى على حائط من المصباح بين هذا الحائط وهذا المصباح فيغشيه النور وإن كان الحائط نفسه من الطين.
فإذا كان القلب بهيميا زائغا عن الإنسانية إلى حيوانته، استفاضت ظلمته وشهوته على ما حوله فلن يشهد من صفات الجمال شيئا بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو، حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم بعض المرضى. ومثل هذا يعشق أجما النساء فلا يرى فيه جمالا البتة وإن هو خدع نفسه في ذلك واختدع الناس، وإنما يرى فيها الشهوات، شهوات جميلة ليس غير.
أما القلب البهيمي غير المنعكس وهو ذاك الذي تحمله البهائم، فلا يحتفل فيه عقل ولا يحتشد فيه خيال، وما هو إلا أن ينصب الحيوان به على محض المنفعة، لأنه عامل في الطبيعة يعد من عمالها لا من شعرائها. فليس عنده جمال يقع في ظاهر الروح وآخر يقع في باطنها وثالث متوهم لا يقع ولا يمتنع أن يقع، وليس يعرف من معنى القبح إلا أن تكون الأنثى قد طاش بها المرض فما تستقل إعياء وضعفا. وبذلك سلمت إناث البهائم من شر كثير يملأ لغة الحياة النسائية بمعانيه وتجمعه كلمتان: الجمال والقبح.