ولو سما عقل الرجل إلى الغاية العليا من كماله لرأى المرأة الجميلة الفاتنة في نصف جمال بالمرأة القبيحة، ولبانت الواحدة عنده من الأخرى بأن الدميمة مهيأة في نفسها لمعالي الأخلاق والجميلة مهيأة لسفسافها، ولرأي مع هذه من بعض طباعها ونزعاتها شرا مما تقدم بها من جمال وجهها، ومع تلك من أكثر طباعها وصفاتها خيرا مما قصر بها من حسن صورتها.
بيد أن من شقوة الطبع الإنساني أنه سخط القبح فأحاله فساد وعبد الجمال فأحاله فساد من نوع آخر، غذ كان في نفرته وحبه لا يعتبر المنافع والحقائق ولكن الأهواء والشهوات، والمنفعة والحقيقة كلتاهما لا تكون إلا في قيودها، أما الأهواء والشهوات فهي دائما لا تقع إلا متخطية حدود العقل غما على النقص وإما إلى الزيادة ولا تغرى بشيء إلا أوقعت به السوء إذ لا يستوي في القصد ما خرج عن الحقيقة وما هو مقيد بالحقيقة.
كان هذا وحي الشيخ علي في نفسي غير أني رددته عليه وأزلني شيطان الحب مرة أخرى فقلت: أفترى الشوهاء على ما بها مما ركع الدهر وسجد، ثم تلك المرأة التي سمج تركيبها فتحامتها العيون، ثم الأخرى التي قمعت في بيتها تختبئ فيه من القبح فصارت سرا في صدر الحيطان، ثم تلك التي تلوح في النساء كالسطر المضروب عليه أفسده الخطأ، ثم المهزلة التي أدبر جسمها وتقبضت أعضاؤها وأصبحت جلدة تمشي وتتكلم. أفترى هؤلاء أو إحداهن كتلك الغانية المتشكلة في ألوان الثياب كأنما تلبس بدنها الجميل بدنا معنويا يدل على معانيه، أو الأخرى التي تظهر في جمالها الفتان عاطلة من كل حلية ومع ذلك ترف على حسنها روح الياقوت والماس واللؤلؤ مما عليها من البريق والشعاع أو المطوية الممشوقة المسترسلة كأنه في قوامه ووجهها غصن الجمال وزهرته، أو الحسناء اللعوب المزاحة كأنما اجتمعت طباعها من نور القمر أطل في ليلة من ليالي الربيع يداعب أوراق الورد النائمة! أو ... أو تلك "يا شيخ علي" ... ؟ قال الشيخ علي: فيا ويلك! إني والله بك من رجل لخبير، أفمن أجل واحدة؟ أما إنه لعل الذي جعلها حقا عندك هو الذي يجعلها باطلا عند سواك، ولعله ما حسنها في عينيك إلا أن طبعا من الجد فيك استملح طبعا من الهزل فيها، كما ترى معنى مكدودا في إنسان يستروح على نقضيه في إنسان آخر.
ولعل من أمتع اللذات وأبهجها لقلب المهموم أن يتصور في همه من يعرفه طروبا فرحا، وإن كان كلا الرجلين لا يسكن لعشرة الآخر لو تعاشرا واختلطا. وهذه القلوب لا تؤتي من مأتى هو أدق وأخفى من توهم ما فيه اللذة، فإن النفس ترجع عند ذلك بكل حقائقها إلى نوع واحد من الوهم ينصرف بها إلى تمثل هذه اللذة التي استشرفت لها وطمعت فيها، فإذا طعمها في الدم يهيج لها سعار الجوع العصبي. وما هي السرقة مثلا إلا أن يضع اللص عينه على المال أو المتاع ويتذوق طعم اليسر والفائدة فتجن أعصابه جنون الحاجة، فلا يرعوي إلى شيء من الرأي يزجره أو يمنعه أو يكفه، ويكون في الحقيقة سارقا قبل أن يسرق، وكذلك يكون الفاسق متى نظر إلى المرأة واشتهاها ونبه معانيها في معانيه، وقل في مثل هذا في كل من طار قلبه أو طار صوابه.
اله عن وهمك يا بني وضع الأمر على قاعدته. وسدد نظرك على حقيقته ودعني من حبل الباطل الذي تجر فيه شيطان هواك أو يجرك هو فيه. وما نتكلم عن اثنين من الخلقة أنت وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما وفنيت بالحب فيك لكنت أنت ذلك الكون وهذا، حرسك الله، موضع النقص في النفوس العاشقة إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى. وهو نقص أشبه بجنون المجانين بل هو متمم له، فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبل هو نصف الجنون الإنساني أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.
نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلى الحاضر. إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل إلا يأمل هذا ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية بل بغير عمر، وكذلك ليس العاشق مع الحبيب شخصا أخر ممن مضى وممن يأتي ما دام الحب قائما، فالحبيب هو الحبيب، وكل الناس بعده أدوات: وشخص واحد هو: الألف واللام والحاء والباء، والناس جميعا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط.